خشب للبيع: حين تتحول الذاكرة إلى وقود للطهي

خشب للبيع: حين تتحول الذاكرة إلى وقود للطهي

تمشي أم محمد المصري في شقتها السكنية، كما لو كانت في جنازة. أصابع يدها ترسم خطًا خفيفًا على غبار متراكم على خزانة ملابس عمرها عشرين عامًا، صنعها زوجها الراحل بيديه. تتنهد بعمق يهز جسدها النحيل قبل أن تهمس بكلمات لا يسمعها أحد: "استودعك الله".

هذه ليست صلاة سفر عادية، بل وداع أخير. بعد لحظات، سيختفي هذا الأثر الأسري في دوامة من الغبار والخشب المتطاير، ليس إلى مستودع تخزين، بل إلى سوق تجارة جديدة قوامها حطام الذكريات.

المشهد هنا في حي الشيخ رضوان غرب غزة ليس استثنائيًا، منذ أن أوقف الاحتلال الإسرائيلي إدخال وقود الطهي بشكل شبه كامل في مارس الماضي، تحوّلت القطعة الخشبية من مجرد شيء يستخدم للتدفئة أو الطهي إلى سلعة نادرة.

وعندما تأتي أوامر الإخلاء العسكرية لمنطقة سكنية، كما حدث بشكل متكرر خلال الأسبوعين الأخيرين بدافع احتلال مدينة غزة، يصبح الخيار أكثر قسوة: إما ترك كل شيء للقصف المحتمل، أو تحطيم كل شيء لا يمكن حمله وبيعه لتحويل كتلة الأثاث إلى نقود قليلة تُمكّن من شراء الطعام أو دفع ثمن وسيلة نقل إلى مكان آخر قد لا يكون آمنًا.

"انظروا! انظروا إلى هذه الحياة كيف تنتهي!"، يصرخ أبو باسل بركات وهو يرقب إلقاء ابنه قطع الأثاث الخشبية من الطابق الثالث، ثم تتحطم على الرصيف.

أبو باسل رجل في الخمسين من عمره، كانت يداه تعتزان بإحكام شديد على مسند السرير المغطى بالجلد والإسفنج، بينما كانت عيناه تتابعان عملية التهشيم والتوزين التي يقوم بها شابان يعملان على شراء الخشب من الناس. كل ضربة بمطرقة كبيرة لتحطيم الأثاث تصدر صوتًا أجوفًا يعلو فوق ضجيج المدينة التي يكسوها الحزن نتيجة أوامر الإخلاء، كأنه نبض قلب يعيش في غرفة الإنعاش بانتظار إعلان توقفه.

"هذه غرفة نومي كلها"، يقول أبو باسل بصوت مبحوح، مشيرًا إلى كومة من الخشب المكسور والقماش الممزق. "فيها نمى أولادي، وحلمنا، وصبرنا. اليوم، أصبح سعرها أربعة شواكل للكيلو".

أربعة شواكل (حوالي 1.1 دولار) هو السعر الذي يدفعه تجار الحطب للأهالي مقابل كل كيلوغرام من خشب الأثاث المحطم. التاجر بدوره يبيعه للمستهلكين اليائسين مقابل سبعة شواكل، في سوق سوداء ظهرت خلال الحرب دون أي شكل من أشكال الرقابة.

في الزاوية، تجلس سلمى (32 عاماً) على الرصيف، منحنية كأنها تحمي شيئاً في حضنها. بين ذراعيها، تمسك بلعبة دمية خشبية صغيرة، كل ما تبقى من سرير طفلتها الرضيعة. تقول والدمع لا يبلل خديها الجافتين من شدة الصبر والألم: "السرير كان ثقيلاً جدًا لنحمله. لم يكن لدينا وقت ولا مال لنستأجر عربة. فضلنا أن نكسره هنا بدلاً من أن يتحطم تحت القنابل ويُدفن مع بيوتنا. لكن هذه الدمية... هذه سآخذها معي. لا أعرف إلى أين، لكنها ستكون معي".

المشهد العام المحيط يشبه كابوسًا، شاحنات صغيرة تتنقل بين الأزقة، لا تحمل أمتعة مغلفة، بل حمولات من الخشب المكسور والأسرة المحطمة والتحف الخشبية التي كانت يوماً تزين صالات الاستقبال.

صوت المطارق والمناشير يخلق سمفونية كئيبة، تتخللها أحيانًا زفرات مكتومة ودعوات استسلام. رائحة الخشب المطحون والغبار تملأ الهواء، مختلطة برائحة الدخان القادم من المركبات المشغلة بالوقود الصناعي وزيت القلي.

أحدّ التجار، الذي رفض ذكر اسمه، يوضح بينما تزن موازينه حمولة جديدة من الخشب: "الناس بحاجة إلى طبخ طعامها، والغاز غير موجود، والكهرباء منقطعة، فماذا تريد منهم أن يفعلوا؟ أن يموتوا جوعًا؟ أنا أشتري الخشب لأبيعه لشخص سيستخدمه للعيش، ليست تجارة، هي حلقة بكاء، فقبل أن أتجرأ على شراء الأثاث وتحطيمه حطمت أثاث مسكني وبعته كي أطعم أطفالي".

الأرقام تتحدث عن مأساة لا تُحتمل. وفقاً لتجار في السوق، فإن أسرة غزية متوسطة تحتاج إلى حوالي كيلوغرامين من الخشب لطهي وجبة واحدة بسيطة، أن تكلفة طهي الوجبة الواحدة تصل إلى 14 شيكل (حوالي 3.8 دولارات)، وهو مبلغ باهظ في ظلّ اقتصاد محطم ومعدلات بطالة تتجاوز 90%.

بيع أثاث غرفة نوم كاملة بالكادّ يغطي تكلفة طهي الطعام لأسبوع أو أسبوعين، أو يساهم في دفع ثمن رحلة النزوح إلى منطقة يُفترض أنها أكثر أمانًا جنوب وادي غزة، وفق توجيهات الجيش الإسرائيلي.

قبل غروب الشمس، تبدأ النيران في التوهج في المواقد البدائية. الدخان المتصاعد لا يحمل فقط رائحة الخبز المشوي، بل رائحة خشب الأسرّة التي احتضنت أحلاماً، وخزانات حفظت أسرار عوائل، وطاولات جمعت أفراد العائلة حولها.

أم محمد، التي رفضت في النهاية مشاهدة تحطيم خزانة زوجها، تبتعد عن المكان. ظهرها منحني، خطواتها ثقيلة ومتثاقلة باتجاه غرب المدينة، لا تحمل معها سوى حقيبة صغيرة وبعض الأوراق الثبوتية.

هي لا تعرف أين ستنام الليلة سواء على فرشة اسفنجية أو فوق غطاء، ولكنها تعرف يقيناً أنها لن تنام مرة أخرى على سريرها، السؤال الذي يطارد الجميع هنا ليس أين سيذهبون فقط، بل ماذا سيفعلون عندما تنفذ آخر قطعة من خشب ذاكرتهم، ويبقى الجوع قائماً، والحصار مستمراً، والعالم صامتًا.