تصريف العملات أزمة إضافية: عن حرب الفكة

تصريف العملات أزمة إضافية: عن حرب الفكة

يقف محمد صالح (45 عامًا) أمام بسطة صغيرة في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، ممسكًا بورقة نقدية من فئة مائة شيكل مهترئة الأطراف. كل ما يريده هو كيلو دقيق يسدّ به رمق أطفاله الأربعة.

يرد عليه البائع ببرود دون أن ينظر إليه: "أريد فكة.. فكة". فقضى الرجل ست ساعات من التنقل بين البسطات يقف عند كل بسطة ولكن الرد كان جاهزًا: "لا يوجد فكة"، فعاد بخفي حُنين. يقول وهو يفرك جبينه المتعرق: "في النهاية اضطررت لشراء كيلو عدس لم أكن بحاجته، فقط لأنّ البائع وافق على فك الورقة".

عاد صالح إلى خيمته في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، خالي الوفاض بعد ساعات من الانهاك. سأله أطفاله عن الطحين، فرفع الورقة النقدية المرفوضة قائلًا بتنهيدة ثقيلة: "لا يوجد فكة.. هات فكة.. اشتري فيها كلها".

ما هي أزمة الفكة في غزة؟

ما تعيشه غزة اليوم هو أزمة نقدية فعلية تُعرف بـ "أزمة الفكة"، فكيف بدأت ولماذا تفاقمت؟ لم تكن قصة محمد صالح حالة فردية. ففي شوارع القطاع التي أنهكها الحصار والحرب، بات التعامل النقدي اليومي في ظلّ أزمة الفكة في غزة يواجه عوائق مرهقة، إذ يمكن لورقة نقدية واحدة أن تحدد مصير وجبة أو تحرم أسرة كاملة من الطعام.

في ظلّ شح السيولة ونقص العملات الصغيرة في غزة، لم تعد الأموال – حتى القليلة منها – قابلة للتداول بسلاسة، وتحوّلت الأوراق النقدية الكبيرة إلى عائق حقيقي في أبسط المعاملات، لا سيما مع رفض الباعة تداولها.

أمام هذا الواقع، أصبحت المعاملات اليومية لـ2.3 مليون إنسان يعيشون في قطاع غزة تحت خط الفقر المدقع بمثابة مواجهة يومية مع نظام نقدي مشلول، يفاقم الضغوط بدل أن يخففها.

ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تعاني الأسواق من أزمة شُح سيولة حادّة، زادت تعقيدًا مع إغلاق البنوك، ومنع الاحتلال إدخال الأموال الجديدة، وارتفاع نسبة تلف العملة الموجودة.

وبحسب سلطة النقد الفلسطينية، فإن 82% من الأوراق المتداولة في القطاع هي من فئة 20 شيكلًا فما فوق، بينما تشكِّل الفئات الصغيرة أقلّ من 5%، ما يفسر جزئيًا شحّ "الفكة".

هل يمكن لخمسة شواكل أن تُفقر غزة؟

خمسة شواكل فقط، هذا كل ما كان يحتاجه محمود (27 عامًا) ليستقل مركبة تقله إلى خيمته المقامة في منطقة الميناء غرب مدينة غزة، لكنّه لم يجد سائقًا يقبل ورقته النقدية الكبيرة، ولا بائعًا يستطيع فكّها. قطع الطريق مشيًا على الأقدام لمسافة تزيد عن سبع كيلومترات، يردّد في نفسه ما بات يردّده كثيرون: "حتى توفر الخمسة شواكل أصبحت معضلة".

في أزمة الفكة بغزة، لم تعد القيمة هي المشكلة، بل غياب الوسيط النقدي نفسه. عدم توفر العملات الصغيرة أصبح رمزًا لعجز المنظومة النقدية عن تلبية أبسط احتياجات السكان.

وبالنسبة لكثير من الغزيين، لم تعد الورقة النقدية وسيلة سهلة للشراء، بل باتت معضلة تتطلب حلولًا بديلة، كما توضح فاطمة زيد (30 عامًا)، أم لطفلين، وهي تسرد معاناتها مع ورقة نقدية من فئة مئتي شيكل. تقول: "حاولت فكها، لكن الجميع أراد خصم عمولة. أحدهم طلب 20 شيكلًا بدل الفكة".

تضيف زيد: "راتبي الشهري لا يتجاوز 300 شيكل، فكيف أقبل أن أخسر 20 شيكلًا مقابل فك ورقة؟"؛ ما اضطرها إلى شراء سلع لا تحتاجها – طحين، أرز، صلصة – ثم قايضت بعضها مع جاراتها، بنظام تبادل بدائي عاد ليحكم الأسواق الغزية تحت ضغط الضرورة.

أما أم أحمد جابر (62 عامًا)، فوقفت في طابور طويل أمام أحد العاملين في سحب الأموال بالعمولة في حي الرمال وسط مدينة غزة، حيث ينتظر المواطنون وقتًا طويلاً لتحويل أموالهم البنكية والحصول على أخرى نقدية بعمولة تصلّ إلى 52%.

تقول وهي تمسك بأوراق نقدية حوّلت ضعفهم للرجل: "نبيع جزءًا من أموالنا لنتلقى الباقي"، ثم وجدت نفسها مضطرة لشراء مستلزمات بقيمة 90 شيكلًا رغم أنّ حاجتها لا تتجاوز 40 شيكلًا، فقط ليقبل البائع ورقتها النقدية الكبيرة.

ما هي البدائل التي ابتكرها المواطنون والتجار؟

في مواجهة شح السيولة، لجأ المواطنون إلى وسائل بدائية لتجاوز الأزمة، من المقايضة إلى إيصالات الدَّين اليدوية. أحمد جمال (40 عامًا)، سائق باص فلوكس فاجن، أصبح يرفض نقل الركاب ممن لا يحملون "فكة". يقول: "لا أملك فكة، وإذا أخذت أوراقًا كبيرة سأقضي يومي أبحث عمن يفكها". ويشير إلى حلّ مؤقت لجأ إليه بعض زملائه السائقين لحلّ أزمة الفكة في غزة عبر بائعي السولار وهو ترك الورقة الكبيرة لديهم، وأخذ الفكة مقابل خصم معين، في نظام معرّض للخسارة، لكنه أفضل من لا شيء.

في سوق النصيرات وسط قطاع غزة يبرز ابتكار آخر استخدمه بعض الباعة مع الزبائن وهو "ورقة مختومة" يُكتب عليها مبلغ متبقٍ من عملية شراء، لتُستخدم كإيصال دَين لدى البائع ذاته. يقول رائد جابر (45 عامًا): "هذه أقوى من العشرين شيكل.. لأنها سند دَين".

لكنّ هذا الحلّ يحمل مخاطر، إذ لا يُقبل إلا من بسطته، بينما لا توجد جهة تُلزم البائع بالوفاء، ما يجعلها حلًا هشًا ومحدود التداول. مع ذلك، يقترح اقتصاديون تعميم هذا النظام وتحويله إلى إيصالات موحدة مرتبطة برصيد إلكتروني أو تطبيق شبيه ببطاقات الشحن، لتقليل الاعتماد على النقد.

عبدالله حسان (60 عامًا) فقَدَ أعصابه في واحد من أسواق غزة، بعد أن رفض ستة بائعين إعطاءه نصف كيلو طحين مقابل ورقة نقدية من فئة 50 شيكلًا، وأصروا على الشراء بالقيمة الكاملة. صرخ وسط السوق: "كلكم ما معكم فكة.. الله أكبر!"، قبل أن ينسحب غاضبًا، لا لشيء سوى أنه لم يملك فكة.

في ظلّ هذا العجز، نشأت سوق سوداء للعملات الصغيرة، حيث يشتري وسطاء مبلغ 100 شيكل مقابل 85 شيكلًا فكة. يقول أبو أسامة، صاحب بسطة في حي النصر غرب غزة: "الناس مضطرون، البنوك مغلقة، والاحتلال يمنع إدخال العملات". ويشير إلى أنّ نقص العملات الصغيرة في غزة صار عبئًا على التداول اليومي؛ ما خلق طبقة جديدة من التجار المتخصصين فقط في بيع وشراء الفكة.

ما هو دور سلطة النقد والبنوك؟

وسط كل هذه الفوضى، تبرز تساؤلات حول دور المؤسسات المالية في احتواء الأزمة، أو على الأقل تقليل آثارها. الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أنّ الضغط المتزايد على الفئات الصغيرة، وتراجع تداول العشرين شيكل لتلفها، أدى إلى خلل في السوق النقدي. ويقول إن أزمة الفكة انعكاس لأزمة أعمق: "النظام النقدي في غزة ضعيف والنشاط التجاري مشلول، الناس لا يستطيعون شراء حاجاتهم اليومية، الفكة التي هي شريان السوق تباع الآن بعمولة".

ويقترح أبو قمر تفعيل نظام الدفع الإلكتروني بالشراكة مع البنوك وسلطة النقد والغرف التجارية، لكن يقرّ أن العقبة الرئيسية سياسية، فوفقًا لبروتوكول باريس، يقع على عاتق الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية إدخال العملات واستبدال التالفة. يضيف: "سلطة النقد مطالبة بالضغط عليه، لكنها لا تتحرك كما ينبغي".

هل أزمة الفكة في غزة مخالفة للقانون الدولي؟

ما يحدث في غزة يتجاوز كونه خللًا نقديًا، إذ يرى خبراء القانون أنّ منع إدخال السيولة يعد انتهاكًا واضحًا للاتفاقيات الدولية. ويؤكدون أنّ استمرار الاحتلال في منع إدخال السيولة وتعميق أزمة الفكة في غزة، بحسب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، هو شكلًا من أشكال العقوبات الجماعية المحظورة دوليًا. كما تنص المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، على حق الأفراد في وجود نظام نقدي فعّال لتيسير التعامل النقدي في غزة، وهو ما يفتقده المواطنون اليوم.

وفي ظلّ هذا الانهيار النقدي المتسارع وأزمة الفكة في غزة، يبقى السؤال قائمًا: هل تتدخل المؤسسات المالية لإنقاذ النظام النقدي المتعثر، أم تبقى العملات الصغيرة عائقًا يوميًا يرهق حياة السكان؟