تعرفوا على التحولات الصامتة في بنية المجتمع والسكان

تعرفوا على التحولات الصامتة في بنية المجتمع والسكان

في غرفةٍ نجت من قصف شقتها السكنية في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، تسند إيمان عماد طفلها الرضيع إلى صدرها وهي تمسك بيده الهزيلة وتحدّق في الفراغ. منذ أسابيع، لم يتمكن جسده من امتصاص أيّ طعام. لم يعد الحليب متاحًا، وحتى الماء، لم يعد كافيًا.

داخل الغرفة التي لجأت إليها من بيتها المُدّمر، لا تملك السيدة إيمان شيئًا سوى جسدها الذي يذبل مثل ابنها. كل صباح، تبدأ بالبحث عن مصدر لتوفير الطحين، ثم تمضي النهار على أمل أن يعود زوجها بحفنةِ عدس أو بضعة أرز من أحدّ البسطات، أو  يظفر بشيء من المساعدات؛ لكنّه كثيرًا ما يعود صفر اليدين، أو محمّلًا بأنباء عن طفلٍ آخر فقد وزنه أو روحه.

لم تكن الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ واحدٍ وعشرين شهرًا على قطاع غزة مجرّد حرب عسكرية فقط، بل تحوّلت إلى قوة طاحنة أعادت تشكيل الحياة من جذورها. بين أنقاض البيوت المهدّمة، وفي المخيمات التي نشأت داخل الأحياء والمدن، وعلى أرصفة الأسواق الارتجالية، تتغيّر معايير البقاء، وتتفكك الأنماط التي طالما عرّفها المجتمع الغزّي: من الأسرة الممتدة إلى دورة العمل والاستهلاك، ومن الولادة إلى الزواج، ومن مذاق الخبز إلى مفهوم البيت والاستقرار.

ما يُرى بالعين في شوارع غزة هو مجرّد واجهة لتحوّلات ديموغرافية عميقة، يمكن تتبعها أيضًا في الأرقام التي تُشير إلى أنّ هناك أكثر من 1.9 مليون نازح، و70% من السكان يعيشون على وجبة واحدة أو أقل، ونساء يلدن دون أدنى رعاية طبية، وأطفال لا تلتئم جروحهم بسبب الجوع، وعائلات بأكملها تبيع مدخراتها أو تنبش في الركام لتنجو بيومٍ آخر.

لا تقتصر هذه التحولات على الواقع المعيشي اليومي فحسب، بل يُشير خبراء إلى أنّها تمتدّ إلى بنية الاقتصاد، وأنماط السكن، والوظائف، والعلاقات الاجتماعية داخل الأسر. ويصفونها بأنّها حالة انكسار هائل في التنظيم الطبيعي للحياة، حيث لم تعد الخريطة التي نعرفها قائمة، بل باتت غزة خريطة متحوّلة من الرماد والنزوح والانتظار.

في ذروة المجاعة التي تضرب اطنابها في القطاع منذ ما يقرب من أربعة أشهر، بلغت نسبة انعدّام الأمن الغذائي الحادّ مرحلتها الخامسة – وهي الأعلى وفق التصنيف الأممي – ما يعني أنّ أكثر من نصف مليون شخص يعيشون في حالة مجاعة فعلية. وتُقدّر نسبة السكان الذين يمرّون بهذه المرحلة بنحو 25% من إجمالي سكان القطاع، بينما تستهلك 90% من العائلات وجبة واحدة أو أقلّ يوميًا، وفق تقرير صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان في يوليو الحالي.

تقول خلود حمودة، وهي أم لأربعة أطفال تعيش في مخيمٍ عشوائي أُقيم بين ركام شارع الصناعة جنوب مدينة غزة، إنّ أطفالها باتوا يطلبون الطعام من المارة، أو يحاولون التسوّل أمام شاحنات الإغاثة. وتضيف: "ابني كان وزنه أكثر من ثلاثين كيلوغرامًا، الآن بالكادّ يصلّ إلى خمسة عشر. نحن ننقطع عن تناول الخبز لأيام عديدة متوالية، والخضار المتوفرة باهظة الثمن".

على نحوٍ غير بعيد، في إحدى الخيام العشوائية في منطقة السرايا وسط مدينة غزة، حيث تكدّست عشرات العائلات في أرض واحدة، يقول أبو وائل، وهو رب أسرة من سبعة أفراد: "نعيش اليوم بلا نقود. نبيع ما نملك لنأكل، وإذا لم نجد ما نبيعه، ينبش الأطفال في النفايات عن أيّ شيء نحرقه لنسلق العدس".

يبدو التعب جليًّا على ملامحه وقد خسر كثيرًا من وزنه تحت وطأة هذه الظروف الصعبة. يردف بصوتٍ مُتعب: " انقطعنا عن الطعام، نصوم كل يوم"، يتابع الرجل والبؤس يملأ عينيه: "نحتاج كل شيء: الحطب، الطعام، الدواء، الحفاضات"، قبل أن تخنقه العبرة، فيسكت فجأة، وكأنّ الكلمات خانته حين حاول وصف ما تبدّل من حياته بعد أن فقد منزله، وعمله، وكل ما كان يمنحه شعورًا بالاستقرار.

مع ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 437%، وانخفاض القوة الشرائية إلى ما يقرب من 11%، بات تأمين الغذاء تحديًا مستحيلًا للأغلبية الساحقة. تغيّرت أنماط الشراء العائلية، فبدلًا من توزيع الطعام داخل الأسر وفق احتياج الأفراد، باتت الأولوية للرضّع أو من يُظهر علامات الضعف، في تحوّل لوجستي داخل الأسرة الواحدة، يعكس ضيق الموارد وندّرتها.

بالإضافة إلى ذلك، ظهرت أسواق غير رسمية في محيط أماكن النزوح، تعتمد على ما تبقى من مساعدات مسروقة أو مبادلات غير متكافئة، وانتشرت العملات المهترئة، ورفض التعامل مع بعض فئات نقدية؛ هذا الواقع ساهم في تعميق الفوضى، سواء على المستوى الغذائي أو المالي.

تتجوّل مريم محمدين (40 عامًا) في السوق الارتجالي الذي ظهر خلال الحرب في شارع الجلاء وسط غزة، كانت تبحث عن طحين لإطعام أطفالها الأيتام، لكنّها لم تجد إلا القليل بسعر 150 شيكل (50 دولار) للكيلو الواحد. تقول: "نعيش في بورصة فوضى، لا يوجد سعر ثابت لشيء، كل شيء خاضع لمزاج التجار".

أمّا رندة طلال (65 عامًا) وهي معلمة متقاعدة، تقول: "بعنا طقم النوم مقابل طحين، ثم باع ابني خاتم زفاف زوجته لتوفير حفاضات لابنه". ما تعيشه هذه السيدة ليس مجرد حالة فردية تحاول التكيّف مع الظروف الراهنة في قطاع غزة؛ بل هو مؤشر عن تفكك الطبقة المتوسطة وتحوّلها إلى مستهلكين يعانون الهشّاشة الاقتصادية.

هذه الأوضاع أصابت آلاف الحالات في قطاع غزة بمشكلاتٍ صحيّة لا سيما سوء التغذية الذي أودّى إلى موت أطفال في أحضان أمهاتهم وسط عجزٍ بالغ.

على سريرٍ بارد في مستشفى الرنتيسي غرب غزة، تجلس رانية إيهاب إلى جانب طفلها يامن (عامان)، تصارع اليأس وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. تحوّل جسده النحيل إلى هيكل عظمي، وتلاشت ملامحه تحت جلده الذي بدا كأنّه شفاف، بعد أن فقد أربع كيلوغرامات من وزنه، ولم يعد يحتمل حتى قطرات الحليب الصناعي.

تقول رانية بصوتٍ مرتجف وهي تُحدق في وجه ابنها الشاحب: "أراقبه يموت أمامي كل يوم، ولا أملك سوى الدعاء… أموت معه وأنا أرى جسده يذبل، بينما يدي فارغة لا تستطيع أن تُطعم أو تُنقذ".

في مستشفى ميداني بخانيونس جنوب القطاع، قالت الطبيبة البريطانية فكتوريا روز إنّ سوء التغذية الحادّ في غزة يمنع شفاء الأطفال المصابين، مؤكدة أنّ أجسادهم "ضعيفة لدرجة تعجز فيها عن التئام الجروح"، ووصفت الوضع بأنّه "مجاعة صامتة خلف الخطوط". 

وترصد وزارة الصحة الفلسطينية أكثر من 57,575 حالة من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحادّ، و42,000 حالة جفاف شديد، و8,968 حالة إسهال مائي حاد.

انهيار القطاع الصحي نال من كافة فئات المجتمع في غزة وازدادت خطورتها على النساء أيضًا، لا سيما الحوامل منهن، ووفقًا للوزارة، هناك 52,000 امرأة حامل في غزة، منهن 7,950 في الخيام أو مراكز النزوح، مع 4,700 ولادة متوقعة شهريًا. 73% من الحوامل يعانين من فقر الدم.

بالإضافة إلى ذلك، تتمّ 68% من الولادات في أماكن غير مجهزة صحيًا مثل الخيام أو وسائل المواصلات، أو حتى المستشفيات التي تفتقر إلى أدنى مقومات الرّعاية الصحية الأساسية.

تقول هناء سامي (32 عامًا): "وضعت طفلتي في ظروف تعجيزية، لم أرَ الطبيب إلا للحظات معدودة. لم أحصل على دواء أو عناية بعد الولادة، ونزفت لساعات". وتردف القابلة نسرين جبر: "نعمل بمواد معقمة يدوية، نلجأ لأساليب بدائية. كأننا عدنا عقودًا إلى الوراء".

وتروي ليلى جميل، تجربة ولادتها في خيمة بخان يونس جنوب القطاع: "وُلد طفلي في ديسمبر الماضي، على ضوء مصباح يعمل بالبطارية. لم أسمع صراخ طفلي لأنه تزامن مع انفجار قريب، ونمت على بطانية رطبة".

أخصائية النساء والتوليد الطبيبة رانية البسوس، تقول إنّ الحوامل يعانين من ضعف تغذوي شديد ونقص في الحديد والفيتامينات، مما يضاعف خطر الإجهاض أو المضاعفات، وتضيف أنّ الكثير منهن أيضًا "معرّضات لصدمات نفسية، واضطرابات ما بعد الصدمة".

تزداد الأوضاع الصحية قسوةً على النساء في قطاع غزة، في ظل استمرار إسرائيل في إغلاق المعابر ومنع دخول البضائع، وعلى رأسها المستلزمات الصحية. فقد تسببت الحرب في ترك نحو 700,000 امرأة وفتاة في سن الحيض بلا فوط صحية أو مياه نظيفة. ويُقدَّر احتياج القطاع بنحو 10 ملايين فوطة شهريًا، إلا أن هذه المواد، بحسب إفادات طبية وحقوقية، نفدت بالكامل من الأسواق والمراكز الصحية.

في ظلّ هذا النقص الحادّ، تقول الطبيبة البسوس إنّ نساء وفتيات لجأن إلى بدائل بدائية تفتقر إلى أدنى شروط السلامة الصحية، مثل قطع القماش القديمة أو المناديل الورقية؛ ما زاد من خطر الإصابة بالتهابات وأمراض تناسلية. 

تقول هيا رمزي، وهي نازحة تقيم في خيمة بدير البلح وسط قطاع غزة: "اضطررت إلى استخدام قطعة قماش وغسلها بالماء المالح... أشعر بأعراض الالتهابات طوال الوقت، لكن لا خيار آخر لدي. المتوفر باهظ الثمن والنقود المتوفرة تذهب للطعام".

ترافق النقص الكبير في المستلزمات الصحيّة والطبية مع تعطّل أكثر من 80% من المرافق الصحية كليًا أو جزئيًا؛ ما فاقم من أزمة الرعاية الطبية. وفي ظل هذا الانهيار، يُقدَّر أنّ القطاع يحتاج إلى نحو 602,000 تحويلة طبية للعلاج خارج غزة، إلا أن الغالبية العظمى من هذه التحويلات لم تُنفّذ، إمّا بسبب القيود الإسرائيلية أو تعقيدات الإجراءات.

تحت وطأة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ نحو عامين، يتكشّف في قطاع غزة انهيار متعدّد الطبقات، يمتد من البنية التحتية إلى الجسد البشري. لم تقتصر آثار الحرب على تدمير المستشفيات وتجفيف مصادر العلاج، بل امتدّت لتدفع بالسكان نحو هاوية اقتصادية يصعب الخروج منها.

ففي ظلّ التدهور الصحي المتسارع، برز الانهيار الاقتصادي كأحد أبرز ملامح إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي داخل القطاع. ووفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35% خلال عام 2024، فيما تجاوزت معدلات البطالة 80%، بحسب البنك الدولي.

وبينما ارتفعت أسعار الوقود والمستلزمات الطبية بنسبة تصل إلى 300%، بلغت عمولة السحب النقدي من البنوك نحو 48%. ومع اختفاء الفئات النقدية الصغيرة، فقدت الأوراق النقدية قيمتها الفعلية، ما دفع الكثيرين إلى اللجوء للمقايضة أو البيع مقابل الطعام.

كما تُشير الإحصاءات المحلية إلى تراجع عدد الشركات العاملة إلى 16,954 منشأة فقط بنسبة 30.27%، من أصل 56 ألفًا كانت نشطة قبل الحرب.

رمزي خليل، فقدَ عمله في مصنع بلاستيك داخل مدينة غزة، يلخّص المأساة التي يعيشها بجملة واحدة: "كنا عمالًا نعيل أنفسنا وعائلاتنا، واليوم أصبحنا نعيش على فتات الحرب". وصهيب جودة، سائق أجرة سابق، صنع فرنًا من الطين يخبز عليه بأجر على الحطب، بعدما أصبح الوقود أغلى من المركبة نفسها.

يقول المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر: "ما نراه اليوم هو اقتصاد قسري قائم على الضرورة لا على السوق. غابت الأنشطة الإنتاجية الحقيقية، وبرزت أنماط بدائية للعمل، مثل تصنيع المواقد من الخردة، والتنقيب اليدوي عن الموارد من بين الأنقاض. هذا النوع من الاقتصاد لا يبني مجتمعًا، بل يرهق النساء والأطفال ويدفعهم إلى هامش الحياة، حيث البقاء نفسه يتطلب مجهودًا غير متكافئ".

تظهر هذه التحولات بشكلٍ خاص أيضًا في حياة النساء، اللواتي كنّ عماد الاقتصاد المنزلي. أمّا اليوم فقدت كثيرات مصادر دخلهن، واضطررن لإعالة أسرهن في غياب المعيل لاعتقال أو قتلٍ أو فقد.

تقول أميرة زهدي، التي كانت تدير مشغل خياطة شمال غزة: "كنت أشغّل خمس فتيات ونبيع في السوق. اليوم أخيط وحدي أي شيء مقابل كيس طحين". وفي حي الرمال، تحاول ليلى أبو ندى، أرملة تعيل أربعة أطفال، تدبير الحياة بما يتوفّر: "أرسلت طفلي ذا العشرة أعوام للعمل، الفاقة أرهقتنا فالنقود فقدت قيمتها، الأسعار جنونية والمتوفر شحيح للغاية".

لم يسلم الأطفال من هذا التحول، بل انزلق كثيرون منهم إلى سوق عمل غير منظّم، في محاولة لمساندة أسرهم أو استبدال الغائبين من ذويهم. مئات الأطفال ذكورًا وإناث، يتفرقون يوميًا في الشوارع، يبيعون الماء البارد على مفترقات الطرق، أو يبحثون عن موارد بين الركام لحرقها أو بيعها. لم تعد المدرسة وجهتهم، بل الشارع، ولم تعد الطفولة ملاذًا، بل واجبًا غير معلن للإعالة.

المختص الاجتماعي عرفات حلس يوضح أنّ الانهيار الاقتصادي نتيجة الحرب المستمرة لم ينحصر في تفشي الفقر والبطالة، بل أعادّ تشكيل البنية السكانية في قطاع غزة. 

ازدادت أعداد الأسر التي تعيلها نساء بعد فقدان المعيل، وتغيرت أنماط الزواج والإنجاب؛ فبينما تراجع عدد الزيجات المسجلة رسميًا، سُجل تزايد ملحوظ في حالات الزواج المبكر، يقول: "جاءت هذه التغييرات كاستجابة اجتماعية للأزمة وتخفيفًا لعبء الإعالة داخل الأسر".

في الوقت نفسه، اضطر آلاف الأطفال إلى ترك مقاعد الدراسة والانخراط في أعمال شاقة لمساندة أسرهم. يقول حلس: "تحت ضغط النزوح الجماعي من المناطق المدمرة، تبدلت الخرائط السكانية، وظهرت نماط سكن غير مستقرة"؛ ما عمّق من اختلال التوازن الديموغرافي في المجتمع المحاصر.

هذه التغيرات لم تكن وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة تراكم الأزمات بعدما بلغ عدد النازحين داخليًا نحو 1.9 مليون نسمة، أي أكثر من 85% من سكان غزة. فيما فقدت 290,000 أسرة مساكنها كليًا، وتضررت مساكن 210,000 أسرة جزئيًا. وأصبت معظم العائلات تقطن الآن في خيام أو مدارس مُدمرة جزئيًا.

أمام هذا الواقع، تحوّلت المدن إلى خرائط نزوح. وتغيرت ملامح القطاع وشوارعه وأحيائه، حي الرمال الراقي بات ممتلئًا بالخيام، وامتلأت غرب غزة والوسطى وغرب خانيونس بالنازحين، فيما أُخليت رفح وشمال القطاع.

تقول سعاد النحال، معلمة من حي الشجاعية شرق غزة وتقطن في خيمة وسط المدينة: "لم أعد أذكر كم مرّة نزحت، لم أهنأ بالعودة إلى بيتي في الشجاعية، المنطقة خطرة منذ بداية الحرب".

كما تفككت الروابط الأسرية التقليدية، وتحولت الخيام إلى بؤر تجاور إجباري. تتابع النحال: "هنا في الخيم، شريعة الغاب هي التي تحكمنا، والبقاء للأقوى، المشاكل لا تتوقف على الجوار، المياه، المساعدات، كل شيء".

وتعاني السيدة التي تعيل خمسة من الأبناء، فيما فقدَت زوجها جرّاء قصف إسرائيلي، وهي واحدة من 13,901 امرأة أزواجهن، وأصبحن معيلات، تقول: "القلق من الصراع الدائم عن الطعام يلتهمنا"، لكن الأصعب هو نمط الحياة الذي أجبرت عليه هذه السيدة وغيرها الآلاف من قاطني الخيام.

تقول: "نعيش في العراء، لا ننام في الليل. أصوات الشارع، المارة، المركبات، القصف، وروائح الصرف الصحي، تنغص حياتنا "، تُردف بعد لحظة صمت: "انعدمت خصوصيتنا، وفقدنا استقرارنا، وملامح حياتنا السابقة، لم نعد نعرف أنفسنا. نحن مجرد أرقام في خريطة النزوح".

بدوره، يُشير المختص الاجتماعي حلس إلى أنّ الحرب قلبت الأنماط الحياتية رأسًا على عقب، فالنزوح لم يكن مجرد انتقال مكاني، بل تفكك اجتماعي ومعنوي. فقد تلاشت الحدود بين العائلات، وضاعت الخصوصية، وتعمّق الشعور بعدم الاستقرار بفعل فقدان الأحبة، والعمل، والتعليم، وحتى الروابط الأسرية. 

يقول حلس: "ولّدت هذه الحالة صراعات خفية داخل العائلة الواحدة، ودفعت كثيرين إلى أشكال من الانعزال أو الانهيار النفسي"، لتغدو خيمة النزوح أكثر من مجرد مأوى مؤقت؛ بل مرآة لعطب اجتماعي يتوسع مع كل يوم حرب.

وامتدّ هذا التغيير ليشمل شكل الزواج ذاته، الذي لم يعد حدثًا اجتماعيًا مركزيًا كما في السابق، بل تُشير أوراق بحثية إلى أنه بات في كثير من الأحيان قرارًا قسريًا يُتخذ تحت ضغط الحاجة أو الخوف أو الهروب من العبء.

منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023 حتى يونيو 2025، سجّل مكتب قاضي القضاة نحو 7,300 عقد زواج، نحو 35% منها أُبرمت في خيام أو مراكز إيواء غير مجهزة. وتشير بيانات مركز الميزان إلى أن 60% من تلك العقود جرت دون مهر فعلي، و10–20% لفتيات دون 17 عامًا. يقول المختص حلس: "الزواج اليوم مدفوع بالحاجة إلى الأمان أو التخفيف من العبء المادي، لا بالرغبة أو التقاليد المعتادة".

في خيمة بلاستيكية غرب دير البلح، جلس العريس حسن علي (23 عامًا) يعقد قرانه على فتاة من المخيم، تعرّف عليها حين رأى وجهها صباحًا وهي تحمل جالونات المياه. يقول: "كنت آمل أن أُقيم فرحًا وسهرة، لكن الجميع مكلوم والحال صعب". لا زفة، لا ضيافة، فقط زغاريد مكبوتة في خيمة مكتظة. 

يروي أبو باسل، والد إحدى العرائس: "زوجتها في المدرسة بعد أسبوعين من نزوحنا... شاب جيد، يعتمد على نفسه، ولم يكن هناك داعٍ للانتظار أكثر". هكذا، صار الزواج في زمن الحرب فعل بقاء أكثر منه طقس حياة، واختُزلت طقوسه في ظلّ حرب أطاحت بكل ما كان طبيعيًا.

في قطاعٍ لم يبقَ فيه شيءٌ على حاله، يصعب التمييز بين ما كان مؤقتًا وما أصبح دائمًا. الخيام التي نصبت كحلّ طارئ تحوّلت إلى مساكن، والأسواق العشوائية باتت الاقتصاد البديل، والتسول أصبح وسيلة نجاة، والزواج وسيلة ستر لا مناسبة للفرح. يتغيّر شكل العائلة، وتنهار الطبقة الوسطى، وتتحوّل الأم إلى طبيبة، والأب إلى بائع خردة، والطفل إلى معيل.

ومع استمرار الحرب، لم تعد الأسئلة الكبرى تُطرح عن المستقبل، بل عن قدرة الجسد على الصمود ليوم آخر. في غزة اليوم، يُعيد الناس تعريف معنى الحياة من جديد، لا استنادًا إلى الحقوق أو الأحلام، بل وفق منطق البقاء العاري، حيث تُقاس القيمة بوجود حفنة طحين، أو بقعة ظلٍّ آمنة من القصف.

وفي ظلّ هذا التآكل الصامت لكل ما كان مألوفًا، تترنح البنية السكانية والمجتمعية في القطاع، ليس فقط تحت وقع القنابل، بل أيضًا تحت أثر الجوع، والخوف، والفقد، واليأس الممتد. إنها قصة لا تُقاس بعدد الضحايا فقط، بل بشكل ما فقده الناس من ملامح حياتهم السابقة إلى أجلٍ غير مُسمى.