تجلس رولا دلول في أحد أيام الصيف الحارّة، بين أنقاض مركز رشاد الشوا الثقافي وسط مدينة غزة، محاطةً بمجموعة من الأطفال، أصابعها تنساب على أوتار الجيتار، وصوتها الهادئ يَصدح بكلماتٍ أصبحت نشيدًا للأمل: "جنة جنة جنة.. تسلم يا وطنا.. حتى نارك جنة".
الوجوه الصغيرة حولها تُشرِق بابتساماتٍ نادرة في مكانٍ حيث الحرب الإسرائيلية لا تتوقف منذ تسعة عشر شهرًا. لكنّ فجأة، ينقطع هذا المشهد بصرخة مدوّية لانفجارٌ قريب يجعل السماء سوداء، والأرض ترتجف تحت الأقدام. تحاول رولا أن تحتضن الأطفال، بينما تتحوّل دندناتهم إلى صرخات.
هذه ليست المرة الأولى التي تُقاطع فيها الحرب لحظاتهم الهشّة. رولا، البالغة من العمر ٣٢ عامًا، حاصلة على بكالوريوس الصحافة والإعلام وكانت تعمل كمحررة في وكالة إخبارية محلية، لكنّ الحرب أجبرتها على ترك وظيفتها، لتعود إلى شغفها القديم وهو الموسيقى. "لم أكن أعتقد أن الغناء سيكون سلاحي الوحيد في الحرب"، تقول وهي تضبط إحدى أوتار الجيتار.
نشأت رولا في عائلةٍ محافظة، حيث كان الغناء موهبةً موروثة لكنها غير مُشجَّعة. في التاسعة من عمرها، اكتشفَت معلمتها موهبتها في العزف على البيانو، لكن كلما كبرت، واجهت انتقاداتٍ من المحيطين فتوقفت؛ لكنّ رغبتها في الغناء ظلّت تتنامى بداخلها.
في عام ٢٠١٨، نشرت أول أغنية لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفوجئت بردود الأفعال الإيجابية. "لو حصلت على هذا الدعم وأنا صغيرة، لربما كنتُ اليوم في مكانٍ آخر"، تقول بأسف.
لكنّ الحرب أعادت تشكيل أولوياتها، فعكفت على التعلم على العزف بالآلات الموسيقية خاصّة البيانو، ثم مال قلبها نحو الجيتار لتشتريه من أول راتب خاص بها، وبدأت تعزف لأطفال عائلتها والجيران، كوسيلةٍ للهروب من أصوات القذائف.
تقول بنبرة امتنان: "كان والدي مؤمنًا بموهبتي يُحضر لي هدايا على شكل بيانو كلما عاد من سفر" تبتسم. "الآن، هو من يشجعني على تعليم الأطفال الموسيقى".
بدأت رولا تُعلّم الأطفال الغناء بتجمعات صغيرة رفقة أطفال عائلتها والجيران يقضون فيها أوقاتًا بعيدًا عن أصوات القصف، وما بدأ كجلساتٍ صغيرة، تحوّل اليوم إلى مشروعٍ ممول من الاتحاد الأوروبي بالشراكة مع المجلس الثقافي البريطاني والمعهد الألماني "جوتا".
أطلقت على مشروعها اسم "يلا نغني"، وأصبح ملاذًا لعشرات الأطفال الذين يتعلّمون الموسيقى في مراكز التعليم المؤقتة. "بعضهم يأتي فقط ليسمع صوتًا غير صوت الانفجارات"، تقول رولا.
أحبَ الأطفال آلة الجيتار وأصبحوا يغنون بمجرد بدء العزف على أوتارها وهم سعداء، "أحرص على إعطائهم مساحتهم في الغناء وإلقاء الشعر بحرية". تضيف وهي تضع الجيتار جانبًا لتصغي بكامل حواسها لطالب يلقي الشعر بطريقة مُدهشة.
هذا الطفل في العاشرة من عمره، أثارت طريقته المتقنة في إلقاء الشعر فضول رولا، فسألته عن سرّ هذا الاتقان؛ ليخبرها والدموع تتساقط من عينيه أنّه يحفظ الشعر لأنّ والده الذي قضى في الحرب كان يحبّ الأشعار. "قال لي: سأحفظ المزيد لأجله".
التحدّيات لا تنتهي، تروي الفتاة كيف تضطر كثيرًا لإعادة تصوير فيديوهات الأطفال لأنّ القذائف تُغطي على أصواتهم. "في النهاية، أُرغَم على مسح بعض الفيديوهات، لا أستطع تحمّل رؤيتهم يغنون وفي الخلفية دويّ الموت".
أمّا الأصعب من ذلك هو رؤية بعض الأطفال يفقدون بريقهم. "هناك من لم يعد يهتم بالغناء. الجوع والخوف يسرقان أحلامهم"، تقول.
تختار رولا بعناية الأغاني التي تعلّمها للأطفال، مع تركيزٍ كبير على التراث والوطن. "أغني عن غزة لأنّها تستحق أن تُذكر بطريقةٍ جميلة"، توضح. "في الحرب، يصبح الفن مقاومة. نحن نحفظ ذاكرتنا من خلال الألحان".
لكنّها تعترف بأنّها، رغم قوتها الظاهرة، ليست دائمًا بهذه الصلابة. "أحيانًا، عندما يلتهمني الخوف لا أستطيع النهوض من الفراش لأيام". ومع ذلك، فإنَّ عودتها إلى الأطفال تكون أقوى من أيّ شيء آخر. "رؤيتهم يغنون كأن لا شيء سيئًا يحدث، هذا يجعلني أستمر".
إحدى أكبر المشكلات التي تواجهها هي ذهابها للمركز التعليمي وهي تحمل الجيتار على كتفها لثقله. "أتنقل في شوارع غزة الخطرة بصعوبة، أمشي عدة كيلومترات، وأحيانًا أضطر للتوقف من القصف والتهديدات المحيطة"، تقول. لكنها تبتسم: "عندما أصل ويبدأ الأطفال بالغناء، يختفي التعب".
مبادرة "يلا نغني" ليست الوحيدة: هناك 15 مركزًا ثقافيًا على الأقل في غزة يُقدم ورشًا فنية للأطفال، لكن معظمها يعمل بتمويل محدود أو متقطع، كما أنّ 65% من هذه المراكز الثقافية أغلقت أبوابها بشكل دائم أو مؤقت بسبب نقص التمويل أو التدمير المباشر.
وبحسب تقرير البنك الدولي صدر في عام 2023، تعتمد معظم البرامج الفنية على تمويل خارجي، لكن فقط 2% من المساعدات الدولية المخصصة لغزة تُوجه نحو الأنشطة الثقافية والتعليم غير الرسمي.
عند سؤالنا رولا عن دور الفن خلال الحرب؟ أجابت: "الموسيقى هي شكل من أشكال تحدي الاحتلال، فهي تُعبر عن هويتنا الوطنية، وتحفظ ذاكرتنا الجمعية، وهي وسيلة فعالة للتفريغ عن المشاعر، إذ تُستخدم الورش الفنية والعزف الجماعي كنوع من العلاج النفسي".
تؤكد تقارير اليونيسف أن 9 من كل 10 أطفال في غزة يعانون من صدمات نفسية، لكن في الزاوية التي تجلس فيها رولا مع طلابها، يبدو أن النسبة تنعكس: هنا، ولو لساعات قليلة، يصبح 9 من كل 10 أطفال قادرين على الابتسام".
عندما يرفع الأطفال أصواتهم معًا في أغنية "سوف نبقى هنا"، لا يعرفون أنَّ أجسادهم الصغيرة تخوض معركة كيميائية أخرى: فبحسب علماء الموسيقى، الغناء الجماعي يخفض هرمون التوتر ويرفع هرمون السعادة. لكنهم لا يحتاجون إلى مختبر ليشعروا بالفرق يكفيهم أنهم، ولو لدقائق، لا يسمعون إلا أصواتهم تُغني.
أما عن مستقبل مشروعها، فهو غير مؤكد لأنّ التمويل قد ينفد، والقصف قد يصل للمراكز التي تعمل فيها، لكن رولا ترفض الاستسلام. "حتى لو بقي طفل واحد يريد أن يغني، سأكون هنا".
في أحد الأيام، بينما كانت تعلّم الأطفال أغنيةً عن البحر، سمعوا انفجارًا قريبًا. توقفت رولا للحظة، ثم واصلت العزف. "هذا هو التحدي"، تقول. "أن نُغني بصوتٍ أعلى من صوت الحرب".
اليوم، تحلم رولا بأن تصبح وجه غزة الذي يغني للعالم. لكن أكثر من ذلك، تريد أن تمنح الأطفال شيئًا لا تستطيع الحرب أن تسرقه منهم: لحنًا يبقى معهم، حتى عندما يصمت كل شيء آخر.
موضوعات ذات صلّة:
كيف تحوّلت الموسيقى إلى تصبيرة على الجوع؟
الموسيقى في غزة: ملاذ نفسي لمواجهة الحرب
الحرب لم تخمد الموسيقى: يا ولدي قد مات شهيداً