توجيهي غزة : 70 ألف حلم عالق

توجيهي غزة : 70 ألف حلم عالق

في خيمةٍ مزدحمة بجنوب قطاع غزة، يجلس ناصر الشرقاوي (42 عاماً) يحاول إصلاح مصباحٍ يعمل على البطارية، بينما يشرد ذهنه في مستقبل أبنائه رهف ووفيق. المفارقة أنّ الفارق بينهما عامٌ واحد فقط في العمر، إلا أنّ الحرب جعلتهما زملاء في العام الدراسي ذاته، بعد أن تعذر تقدُّم طلبة الثانوية العامة مواليد 2006 للامتحانات النهائية. عشرون شهراً من القصف المستمر إبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تترك للوقت معنى، فحوّلت سنوات دراستهم إلى سنوات انتظار.

تقترب منه ابنته رهف (19 عاماً) لتستفسر منه عن أسئلةٍ حول معادلةٍ رياضية. "قبل الحرب، كانت هذه اللحظات عادية"، يقول الأب وهو يمرر يده على غبار الكتاب المدرسي ليتصفحه. ويتابع: "اليوم، كل جلسة دراسة معها قد تكون الأخيرة".  

رهف، التي كانت تحلم بأن تصبح معلمة، تقضي ساعاتها بين محاولات الدراسة عبر الإنترنت المتقطع والاستماع إلى أخبار التأجيلات التي لا تكادّ تنتهي. "بدأت عامي الدراسي بحماس، اشتريت كل الكتب، جهزت حقيبتي"، تتذكّر الفتاة بينما تلمس حقيبتها المدرسية البالية. تُردف: "بدأنا العام الدراسي في 2023 وبعد شهر ونصف، لم يعد لدينا لا مدرسة ومنزل نعود إليه".  

أما شقيقها وفيق (18 عاماً)، فلم يعد يفتح كتبه للدراسة إلا نادراً. "في كل مرة أسمع عن موعد جديد للامتحانات، يأتي القصف وأوامر الإخلاء ويجعل كل الوعود كذباً"، يقول الشاب الذي كان من المفترض أن يبدأ امتحانات التوجيهي هذا العام، غير أنّ تأجيل الامتحانات للمرة الثانية جعله يفقد الثقة في كل شيء. "حتى عندما يقولون لنا "استعدوا"، لا أعرف كيف أستعد لأمرٍ لا أعرف إن كان سيحدث أم لا".

على مدار العامين الدراسيين السابقين لم يتمكَّن طلبة الثانوية العامة في قطاع غزة من التقدّم لامتحانات الثانوية العامة "التوجيهي" نتيجة استمرار الحرب الإسرائيلية في كارثة تعليمية غير مسبوقة تُهدد بضياع جيل كامل.

كشف الناطق باسم وزارة التربية والتعليم صادق الخضور أن العدد الإجمالي لطلبة الثانوية العامة (التوجيهي) من مواليد 2006-2007 في غزة كان من المفترض أن يصلّ إلى 78 ألف طالب خلال العامين الماضيين، لكنّ الحرب أدّت إلى استشهاد 4 آلاف طالب وتهجير 4 آلاف آخرين خارج القطاع. وأوضح أنّه في حال عقد الامتحانات، من المتوقع أن يتقدم حوالي 65 ألف طالب، بالإضافة إلى ألفي طالب آخرين كانوا مؤهلين للتقديم في 2023 لكن اندّلاع الحرب حال دون ذلك.

ومع تدمير 80% من المدارس وتحوّل الباقي إلى مراكز إيواء بشكلٍ اضطراري، أصبح الطلبة بين خيارين مريرين: معايشة ظروف النزوح اليومي بحثاً عن الأمان أو التمسك بأحلام جامعية تبدو مستحيلة. وبينما تعد الوزارة بامتحانات وشيكة، يبقى السؤال: كيف ستمتحن جيلٌ يبحث عن رغيف خبز ويذاكر بين القصف؟

في مدرسة تحوّل جزء منها إلى أنقاض وجزء آخر إلى مركز إيواء غرب مدينة غزة، تتحول ساحة الرياضة إلى فصلٍ دراسي مؤقت. هنا تجلس ملاك حلاسة (19 عاماً) تحاول التركيز على كتاب الأدب بينما تدوي الانفجارات في الجوار. "هذه الكتب هي كل ما تبقى من بيتنا في الشجاعية"، تقول ملاك وهي تمسك بكتاب منهج اللغة العربية الذي حمله والدها أثناء النزوح.

الفتاة التي اختارت الفرع الأدبي لتحقيق حلمها في دراسة تخصص التصميم الجرافيكي بالجامعة، تواجه واقعاً مريراً: "أدرس دون معلم، دون كهرباء، ودون أيّ ضمان بأنّ هذه الجهود ستؤدي إلى شيءٍ". مع كل تأجيل، تزداد شكوكها وتجتاحها التساؤلات: "هل أنا أضيع وقتي؟ هل هناك مستقبل لأحلامنا؟".

في نفس المدرسة، لكن في غرفةٍ أخرى تحوّلت إلى مأوى لعائلة من بيت حانون، تحاول روان عدوان (18 عاماً) حلّ مسائل الفيزياء بينما يبكي طفل جائع بجانبها. "أحاول التركيز، لكن صوت المعدة الخاوية أعلى من صوت المنطق"، تقول روان التي لا يفارقها شعور الجوع في ظلّ شبح المجاعة الذي يلوح بين سكان القطاع بعدما فقدت 12 كيلوغراماً من وزنها منذ بداية الحرب.

محمد عدوان (18 عاماً) كان من المفترض أن يكون اليوم طالباً في كلية الهندسة، لو أنّ الأمور سارت كما خطط لها قبل الحرب. لكنّ الواقع يقول إنّه ما زال عالقاً في مرحلة الثانوية العامة، كأنّ الزمن توقف به عند لحظة انفجار الصواريخ الأولى. 

لو كانت الظروف طبيعية، لكان عدوان الطالب المتفوق في الفرع العلمي قد أنهى التوجيهي بتفوق - كما كان متوقعاً له – ولبدأ مشواره الجامعي قبل عامين. لكنّ الحرب حوّلت "المفترض" إلى أحلام مُعلقة، و"الواقع" إلى معادلة يومية من النزوح والعوز.

يقضي محمد أيامه الآن بين نقل جالونات المياه من شاحنات المياة المحلاة إلى الخيمة التي تسكنها عائلته، وجمع الحطب بين الأنقاض لإشعال موقد للطهي. "كنت أحلّ مسائل الرياضيات، أما اليوم فأحسب فقط كم ساعة ستدوم كمية الحطب هذه لطهي وجبة واحدة"، يقول الشاب الذي نزح ست مرات، وخسر في كل مرة جزءاً من كتبه المدرسية، وقطعةً من طموحه.

في حقيبته البالية ما زال يحتفظ بدفتر الملاحظات الخاص بمادة الفيزياء، حيث كان يسجل مسائل الهندسة بحماس قبل الحرب. أمّا اليوم، تحوّلت صفحاته إلى قوائم بأثمان السلع في السوق، ومواعيد توزيع المساعدات. مساءً يعود يحاول مراجعة دروسه تحت ضوء كشاف الهاتف؛ لكنّه مع ذلك لم يعد يرى في التعليم أولوية: "عقلي مشغول بشيء واحد فقط: كيف أطعم إخوتي الصغار".

الناطق باسم وزارة التربية والتعليم صادق الخضور يؤكد أنّ التحضيرات جارية والامتحانات ستقام الشهر المقبل إلكترونياً داخل قاعات مؤمنة. "نعمل على توفير كل المتطلبات الفنية واللوجستية لضمان حق طلبة غزة في التعليم أسوة بزملائهم في الضفة الغربية والقدس"، يقول الخضور في اتصال هاتفي مع مراسلة "آخر قصة".

ويشير إلى أنّ النظام المقترح يتضمَّن ثلاث دورات امتحانية متعددة الفرص، ويشمل الطلبة مواليد عاميّ 2006 و2007، لكنّ التفاصيل الأخرى حول حيثيات إقامة الامتحانات تبقى غامضة. 

وبطبيعة الحال لا يعرف الطلبة أنفسهم كيف سيتمكنون من الدراسة والتقدّم للامتحانات في ظلّ ظروف الحرب الحاليّة واستمرار القصف وعمليات النزوح وما يتبعها من انقطاعٍ تام للكهرباء وتقطع لشبكات الإنترنت. 

تتساءل طالبة الثانوية العامة تسأل دعاء الرنتيسي (19 عاماً)، "حتى لو تقرر عقد الامتحانات، كيف سنستعد لها دون كهرباء أو إنترنت؟" التي تقضي يومها بين جلب المياه وغسل الملابس في المدرسة التي تحولت إلى مأوى لعائلتها.  

بدورها، تُحذر الأخصائية النفسية منى موسى من تدّاعيات نفسية خطيرة لتكرار تأجيل عقد امتحانات الثانوية العامة في قطاع غزة على الطلبة. "نحن أمام جيل كامل يعاني من قلق مزمن واكتئاب"، تقول موسى، مشيرة إلى تزايد حالات الإحباط بعدما رأى الكثيرون زملاءهم يتابعون دراستهم الجامعية بينما هم عالقون في دوامة الانتظار.  

تسجل موسى تدهوراً ملحوظاً في القدرات العقلية للطلبة، حيث حلّت هموم البقاء محلّ أحلام التعليم. وتلفت إلى تحوّل كثيرين منهم إلى معيلين لأسرهم في سنٍّ مبكرة. فالأزمة تدفع بأسر كثيرة لاتخاذ قرارات صعبة، بين إخراج الأبناء من المدارس لتأمين لقمة العيش، أو تزويج الفتيات مبكراً. "باتت أولوية العائلات تأمين الطعام لا الشهادات"، تقول موسى.

"هؤلاء الطلبة لم يعودوا يتقدّمون دراسياً، لكنّهم يتراجعون نفسياً كل يوم"، تضيف موسى، داعية إلى تدخل عاجل لإنقاذ ما تبقى من أحلام هذا الجيل العالق بين ركام الحرب وغياب المستقبل.

وتشير إلى أنّ الطلبة أنفسهم يعيشون تناقضاً مؤلماً. إحداهن تقول: "أحياناً أقول لنفسي: توقفي عن هذا العذاب. ثم أتذكر أن التعليم هو السلاح الوحيد الذي نملكه". أما محمد عدوان، فيلخص المأساة: "كل يوم نعيشه هو معركة بين البقاء على قيد الحياة، والتمسك بحلم قد لا نراه أبداً".  

تحت سماء غزة المشبعة بدخان الحرب، يبقى سؤال واحد معلقاً: كم من الأحلام يمكن أن تتحمل أن تدفن تحت الأنقاض قبل أن تنتهي إلى الأبد؟

 

موضوعات ذات صلّة:

غزة بلا امتحان الثانوية العامة للسنة الثانية على التوالي

وزارة التعليم: ترتيبات "جديدة" لعقد امتحانات التوجيهي لطلبة قطاع غزة

هل سيعود الناجح يرفع ايده؟

تحليل: 62% من الطلبة فضلوا الخبز على التعليم