سمير البطريخي (42 عاماً)، تاجر ملابس منذ عشرين عاماً ولديه محل في مدينة غزة. يمسح بقطعة قماش بالية رفاً مُغبراً عليه ترنجات مصفوفة فوق بعضها البعض، وبجانبها سُترات صيفية. يقول: "هذه كانت تُباع كملابس بيتية، الآن يرتديها الشباب في كل مكان حتى في أماكن العمل".
بينما يعدّ البطريخي الأزرار الباهتة المتبقية في علب البلاستيك على مكتبه، يُردف: "قبل الحرب، كنا نستورد أحدث الموديلات الأوروبية عبر المعابر البرية، أمّا اليوم، حتى الخيط أصبح له قيمة".
أمام علاّقة ملابس، تقف إحدى الزبائن فاطمة عيد، في أواخر الثلاثينيات من عمرها، وهي مُدرّسة، تفتش بين طيّات عباءات محليّة الصُنع. تقول بصوت منخفض وخجِل: "آخر مرة اشتريت فيها ملابس جديدة كانت قبل الحرب، أمّا الآن أُصلح الملابس القديمة لأرتديها؛ لكن مع تكرار النزوح أصبحت بحاجة لقطعة جديدة".
في شارع عمر المختار وسط مدينة غزة، حيث كانت المحالّ التجاريّة تعجّ ببضائع مُستوردة من الخارج تركيا ومصر وأوروبا، أصبح الزجاج المُهشم الآن يعكس وجوهاً منهكة، وواجهات المحال المتبقية تذكّر الزائرين بأيامٍ لم تكن فيها الأنماط "الموديلات" الجديدة ترف، بل أمراً عاديًا؛ لكنّ الحرب حوّلت سوق الملابس الغني بالخامات إلى سوق اضطراري للضرورة فقط.
في حي الزيتون، حيث كانت ورش الخياطة تطنّ بماكيناتها كالنحل، يجلس محمد جعفر (50 عاماً) أمام ماكينة خياطة "سنجر" تعود إلى عقودٍ ولّت. "كنت أُخيط أحدث الموديلات العصرية"، يقول بينما يلمع إبهامه المُتشقق من كثرة دفع القماش الخشن تحت الإبرة. "الآن، حتى من أقمشة الستائر نصنع سراويل ومن البطانيات جاكيتات شتوية".
بعد أن كانت غزة تنتج 4 ملايين قطعة ملابس شهريًا وتوظف 35 ألفًا، تراجع القطاع إلى نحو 100 ورشة فقط بـ4 آلاف عامل، بحسب تقديرات الاتحاد الفلسطيني لصناعة النسيج. ومع بدء الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة نُفّذ تدمير لقرابة 79% من الورش، مما أدى إلى تدهور الوضع بشكل أكب، وفقًا لتقديرات البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية.
على مقعده الخشبي، تنتظر سيدة في الستينيات من عمرها، تحمل بين يديها بنطال جينز ممزقاً. "ابني يبيع على بسطة في الطريق، يحتاج إلى ملابس تتحمل الغبار والأوساخ"، تقول. ينظر جعفر إلى القماش المُتهالك، ثم يفتح درجًا قديمًا يخرج منه رقعة من قماش خشن. "سأضعها هنا، حيث الفخذ، لأنّ الحرب لا ترأف بالفقراء"، يقول بضحكة مريرة.
أما الخياطة رحاب عمر التي عُرفت في حيّ الدرج بمهارتها العالية، وكانت الغرفة التي تستخدمها كورشة تعجّ بصوت ماكينات الخياطة الكهربائية، أصبح الظلام الآن رفيقها.
تقف السيدة رحاب تحت ضوء ليد، تحاول بيدين مرتعشتين إدخال خيط رفيع في ثقب إبرة صغيرة. "كنت أخيط خمسة فساتين في الشهر. أمّا الآن، أحتاج ساعات لأُصلّح سترة واحدة"، تقول بينما ترفع عينيها المتعبتين نحو سقف الورشة المتهالك.
قبل الحرب، كانت هذه السيدة تعتمد على ماكينة حديثة مستوردة من تركيا، لكنّ انقطاع الكهرباء حوّلها إلى قطعة حديد صامتة. "في الأيام الأولى، كنت أنتظر عودة التيار كي أنهي طلبات الزبائن. ثم أيقنت أن الانتظار لن يجدي"، تضيف بينما تفرك أصابعها المليئة بالوخزات الصغيرة من كثرة الخياطة على الماكينة اليدوية.
على طاولة مصنوعة من الحديد أمامها، تنتشر قطع قماش غير مكوية ومجعدة. "لم نعد نعرف شكل الكي هنا. فالمكواة تحتاج ألواح طاقة شمسية قوية أو كهرباء عبر المولّد لكنها تكلف كثيرا"، تقول وهي تمسح بيدها على قميص قطنّي مُتجعّد كان يوماً ما لباس عريس. الزبائن لم يعودوا يطلبون كيّ الملابس، بل يهمسون: "لا تهتمي بالمظهر، المهم أن يغطي الجسد".
في زاوية ورشة رحاب، تتدلى من الحائط صورة لابنتها البالغة من العمر عشر سنوات، ترتدي فستاناً وردياً مكويّاً بلا انثناء. "هذه الصورة من ثلاث سنوات... الآن ترتدي ملابسها القديمة بلا كي، لكنها تقول لي: "أمي، أشعر أنني أميرة طالما أنتِ من خاطتْه".
ليست الملابس هنا مجرد غطاء للجسد، بل شهادة على التحوّل القسري لمجتمع كامل. في جنوب القطاع بمخيم استحدثته الحرب في مواصي خانيونس، حيث تتدلى أسلاك الكهرباء كخيوط عنكبوت فوق الرؤوس، تُقيم مجموعة من الشابات خيمة "إعادة تدوير الملابس" داخل خيمة بلاستيكية. هنا، تتحوّل الجينزات الممزقة إلى حقائب، والسترات الصوفية البالية إلى أغطية للوسائد.
إحداهن هي رشا معين (29 عاماً)، خريجة تصميم أزياء لم تترك غزة قط. "تعلمت في اليوتيوب كيف أصنع من الخِرَق شيئاً جميلاً"، تقول بينما تمسك بمقصّها الذي فقدَ حِدته من كثرة القص. لكنّها لا تُخفي تذمرها من الواقع، تُردف ساخرة: "علينا أن نُعلّق على الحائط لوحة نكتب عليها (غزة ترتدي تاريخها)".
زميلتها في المكان نفسه وتُدعى سارة، تفرك بين أصابعها قطعة قماش مزركشة كانت يوماً ما غطاء سرير. "هذه ستكون فستاناً لابنتي... سأخبرها أنه من حرير"، تقول، بينما تنزل دمعة سريعة على القماش قبل أن تمتصه الألياف البالية.
في غزة، لم تعد مواكبة الموضة رغبة فقد اختفت العصرية من الأسواق. حتى الأشخاص الذين كانوا يتمتعون بدخلٍ جيد قبل الحرب، أصبحوا اليوم يخرجون بملابس فيها أجزاء مرقعة دون خجل. يقول أحمد، وهو محاسب كان يرتدي البذلات: "لم يعد أحد يسأل عن الماركة، الجميع يسأل: هل هذا القماش يدوم طويلاً؟".
أما الأطفال، فقصتهم أكثر قسوة. في مدرسة صفوفها من الشوادر البلاستيكية وهي عبارة عن مبادرة تعليمية تحت وطأة الحرب، أُقيمت بحيّ الرمال وسط مدينة غزة، يتبادل الطلبة وأشقائهم الملابس، بعضها تبدو كبيرة خاصّة على طلبة الصف الأول عليهم فتتدلى على أجسادهم دون تذمر منهم.
المعلمة وفاء حسن تقول: "حتى الألوان الجميلة صارت نادرة، أحياناً أطلب منهم رسم ملابس ملونة في كراساتهم، كي يتذكروا أن العالم ليس رمادياً فقط".
في غزة، لم تعد الملابس مجرد أنسجة تُغطي الجسد، بل تحوّلت إلى شهادات حيّة على الصمود، تحيكها إبرٌ ترتجف تحت ضوء "ليد"، فصارت كل قطعة قماش، بكل تجعيدة فيها، سردية من الألم والجمال، تُروى في زمنٍ ساد فيه العتم والرماد. فالإبرة هنا سلاحٌ ضد القهر، والرقعة وثيقة نجاة، والموضة صارت ذكرى تُرتدى، لا رفاهية تُلاحق.
الأزياء في قطاع غزة في ظل الحرب