عن جوع لم يُفرِّق بين الإنسانٍ والقطط

عن جوع لم يُفرِّق بين الإنسانٍ والقطط

في ركنٍ مُظلم يجلس أحمد وادي على حافة فراشه المهترئ، يمرر أصابعه ببطء على شاشة هاتفه المليئة بصور قطته التي رافقته عشر سنوات. كل صورة تحكي ذكرياتٍ صارت ثقيلة كالحجارة. 

يتذكّر وادي كيف كانت القطة تقفز على وسادته، تختبئ تحت البطانية، ثم تخرج فجأة بمرح. لكن هذه القطة اختفت إلى الأبد بعد أن سحقها الجوع والمرض، ضحية أخرى في حرب لم تستثني الحيوانات.

"كانت تأكل طعامًا خاصًا.. ثم اختفى كل شيء من الأسواق بعد مرور أشهر قليلة على الحرب"، يقول وادي بصوتٍ يكادّ ينكسر، وهو يشرح كيف فُقد طعام القطط من قطاع غزة والأدوية أيضًا وحتى إن توفروا فهم بأسعارٍ جنونية لم يقوَ على تحملها.

تحوّلت علب الطعام المخصصة للقطط إلى ذكرى، وحلّ محلها البحث المحموم عن أيّ لقمة. مرضت قطته بالفشل الكلوي، وانخفض وزنها إلى النصف، وماتت بين ذراعيه وهو عاجز عن إنقاذها. يضيف: "بكيتها كأنّها ابنتي".

لم يكن وادي الوحيد الذي عانت قطته من ويلات الحرب. يشترك معه المئات من مربي القطط في غزة في معاناة يومية لتأمين الغذاء والدواء، في ظلّ أزمة تتفاقم مع استمرار الحرب. فوفقاً لآراء متخصصين، أدّت الحرب إلى شح حاد في مستلزمات الحيوانات، حيث نَفِد معظم مخزون الطعام المتخصص، فيما أصبحت الأدوية البيطرية شبه معدومة. 

وإن كانت التقدّيرات تشير إلى وجود مئات الآلاف من القطط الأليفة في غزة قبل الحرب، فإنّ أعدادها تناقصت بشكل ملحوظ بسبب الجوع والأمراض. وقد اضطر المربون إلى اللجوء لبدائل غذائية غير مناسبة مثل بقايا الطعام البشري، مما تسبّب في انتشار أمراض فيروسية وبكتيرية بين القطط، في ظلّ غياب الرعاية الطبية اللازمة.

في غزة، حيث وصلت نسبة الفقر إلى 100% وفقًا للأمم المتحدة، صار إطعام القطط رفاهية مستحيلة. ارتفعت أسعار طعام الحيوانات عشرة أضعاف، إن وُجد أساسًا. المربون، ومعظمهم من محدودي الدخل، وجدوا أنفسهم في مواجهة خيارين: إما ترك حيواناتهم تموت، أو إطعامها مما لا يكفي البشر.

ضحى عوض، تمتلك ثلاث قطط، تتذكّر اليوم الذي اشترت فيه آخر علبة طعام خاصّ بقططها بـ 50 دولارًا أثناء نزوحها من رفح إلى خانيونس. "نهبتها قطط الشارع الجائعة أمام عيني"، تقول بينما تسكُب لقطتها ملعقة تونة واحدة على صحن كوسا مسلوقة، وجبة أصبحت فاخرة في زمن الحرب.

تُردف: "ساء وضع قططي في الحرب كثيرًا، ولم تعد إمكاناتي المادية تتحمل مصروفاتهم، فقد أصبحت أسعار الطعام الخاص بهم مضاعفة مرات عديدة". وتشتري عوض لقططها علب من "التونة" بنحو 8 دولارات وهي أسعار مرتفعة في ظلّ الغلاء الكبير الذي يجتاح القطاع.

اضطرت عوض مثل كثيرين من مربي القطط في غزة إلى استبدال الرمل الصناعي برمل الشوارع، وتقديم علب اللحمة "اللانشون" والعلف المُسبِب للتشنجات، على الرغم من معرفتها بخطورته.

ميساء عز الدين، التي ربت القطط منذ 20 عامًا، تروي كيف فقدَت "بطوط"، قطتها المُدّللة، بعد أن ساءت حالتها خلال النزوح المتكرر. ثم التقطت "شمس"، القطة الهزيلة التي تخلّى عنها أصحابها، واعتنت بها حتى أنجبت "حسام" و"سيماي". لكنّ حتى حكايات الصمود هذه لها نهايات مأساوية. 

"القطط تُصاب بالاكتئاب.. وبعضها يموت في غضون أسبوع إذا فقدَت صاحبها"، تقول عز الدين، التي خصصت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت لتوثيق معاناة قطط غزة.

آلاف المتابعين من حول العالم يرون صور القطط الهزيلة، وما تكتبه عز الدين عن معاناتهم؛ لكن لا أحدّ يستطيع إرسال الطعام أو الدواء فالحصار الناتج عن إغلاق المعابر يُحوّل حتى دخول المساعدات الإنسانية إلى أحلامٍ مستحيلة للبشر والحيوانات على حدٍ سواء.  

توضح عز الدين بلهجةٍ حازمة تعكس سنوات خبرتها: "أصبحت مناعتهم ضعيفة للغاية بسبب الطعام الرديء - اللانشون وعلف الأسماك الذي يسبب لهم تشنجات عنيفة". تضغط على كفّيها وهي تتذكر كيف كانت تحقنهم بالإبر المهدئة، وتسرّب التطعيمات المضادة للديدان بين جلدة وأخرى، محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وتستطرد بأنّ الحرب لم تسلب القطط صحتها فحسب، بل غيّرت طباعها أيضاً. من خلال شبكتها الواسعة من المربّين، لاحظت تحوّلاً غريباً في سلوكها: "صاروا عصبيين، سريعي الاستثارة، وكأنّ الحرب زرعت فيهم رعباً لا يزول". 

في عيادة بيطرية متواضعة، يوضح الطبيب معتصم قدورة كيف تحوّلت حياة القطط إلى جحيم طبي جرّاء الحرب التي أدّت لانتشار الأمراض ففتكت بالقطط والحيوانات بشكلٍ ملحوظ جدًا وكارثي. يقول: "سوء التغذية يجعلها تسقط أثناء المشي، والتونة تُسبب تسممًا غذائيًا يؤدي إلى فقر دم انحلالي". 

الهواء المُلوث بدخان الحرائق المستخدمة للطبخ على النار في قطاع غزة تسبب للقطط بالتهابات رئوية حادّة، والأدوية المنتهية الصلاحية صارت الخيار الوحيد بعد منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المستلزمات الطبيّة كأحد التقييدات على القطاع.

الأمراض الفيروسية تتفشى بسبب نفاد اللقاحات، وشظايا الصواريخ والقذائف وصلت للقطط وتسببت لهم بجروح وكسور لا تُعالج. "نضطر لاختيار الأكثر مرضًا لإعطائه الدواء"، يضيف قدورة، داعيًا المربين إلى تجنب المكونات السامّة وعدم التخلي عن حيواناتهم.

وأدّى الحصار وتدمير البنية التحتية إلى شُح حادّ في الأدوية البيطرية بغزة، بينما تعطلّت معظم برامج التطعيم وجمعيات رعاية الحيوان بسبب القصف ونفاد التمويل.

في زمن الحرب، يصبح الاهتمام بالحيوانات فعل صمود. لكنّه أيضًا سبب للنقد. "يقولون لنا: أنتم جوعى وتطعمون القطط؟"، تروي ضحى. لكن بالنسبة لها، هذه المخلوقات ليست فقط حيوانات أليفة، بل شظايا من الذاكرة والدفء في عالم ينهار.

الطبيب قدورة يطالب المؤسسات الحقوقية بالضغط لإدخال الأدوية، والتجار بتخفيض أسعار المنتجات؛ لكن الصمت الدولي يظلّ صارخًا. فإذا كانت منظمات حقوق الإنسان تعجز عن إنقاذ البشر، فمن سينقذ القطط؟

في غزة، لم يعد الموت حكرًا على البشر. القطط تموت تحت الأنقاض، أو بين أحضان أصحابها العاجزين، أو في الشوارع حيث لا رحمة. والبقاء هنا، سواء لقطة أو لإنسان، أصبح معجزة لا تُحكى.

 

موضوعات ذات صلّة:

الثروة الحيوانية تبخرت: عن إفلاس مربي المواشي

غزة بين أنياب المجاعة.. حيوانات هزيلة تقتات على أخرى نافقة

من حكايات الحرب.. إنقاذ قطط في غزة من "الإبادة" جوعا (مشهد إنساني)

الحرب سحقت المناحل.. حتى صار العسل مرًّا

مأوى لرعاية وعلاج القطط المصابة في الحرب على غزة

حيوانات غزة: الضحية المنسية