بعد نزوح عائلتها من مخيم البريج بسبب الحرب، وجدَت ملك عامر (16 عاماً) نفسها مضطرةً لقبول عرض زواج من رجلٍ أسخى على عائلتها بالمساعدات الغذائية في بضعِ أيام بعدما رآها على باب خيمتهم. "لم أكن موافقة على الزواج في عمري هذا، لكنّ عائلتي أرادت ذلك" قالت الفتاة بحزنٍ يكسو وجهها.
تمّت إجراءات الزواج على عجل، دون أن تُمنح ملك أيّ مساحة للاختيار، لكنَّ النهاية جاءت أسرع من البداية. في اليوم الثالث فقط، اختفى زوجها دون أثر. لاحقًا، علمت أن زوجته الأولى وعائلته أجبروه على تطليقها. تتساءل بمرارة: "ما ذنبي أن أتزوّج في ثلاثة أيام وأُطلَّق في نفس الشهر؟!".
"أنا الآن مُشتتة في أفكاري، فبدلاً من التفكير في مستقبلي واستكمال دراستي، أصبحت مطلقة أبحث عن فرص الزواج للتخلّص مِن لقب مُطلّقة"، قالت ملك (*) بعدما تُرِكت وحيدةً في مواجهة "وصمة" الطلاق وتبعات قرارٍ لم تكن ناضجةً كفايةً لاتخاذه.
في قطاع غزة، حيث تتداخل الأزمات الإنسانية مع التقاليد والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القاسية، يصبح الزواج المُبكر أحدَّ أبرز التحدّيات التي تُواجه الفتيات القاصرات. على الرغم من وجود قوانين تحظر الزواج المبكر، لا تزال هناك استثناءات قانونية تتيح للقضاة السماح بزواج فتيات قاصرات، خاصّة في ظلّ طول أمدّ الحرب وتدّاعياتها ما بين فقد وفقر ونزوح.
تسلط هذه القصة المدفوعة بالبيانات الضوء على ظاهرة الزواج المُبكر في قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية الحاليّة، وتأثيراتها القانونية والصحيّة والنفسية، من خلال استعراض دراسات وشهادات حيّة لتزايد حالات الزواج المُبكر، وتتطرَّق إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية وراء هذه القضية، فضلاً عن التحدّيات الصحيّة التي تُواجه الأمّهات المُراهقات.
لا تكادّ تخلو سجلات محاكم قطاع غزة من حالات زواج فتيات لم يبلغن بعد سِنّ الرُشد. ففي عام 2024، سُجلت (1781) حالة زواج في نقطة محكمة غزة والشمال من بينها نحو (234) لفتيات من (14-16 عام).
وفي محكمة دير البلح وحدها، تمّت الموافقة على (167) حالة زواج لفتيات من عمر (14-16 عام)، و(900) لفتيات أقلّ من 18 عام، من أصلّ (3124) حالة زواج، بموجب استثناءات قانونية تمنح القضاة صلاحية الترخيص بهذه الزيجات.
"أُجبِرت على الزواج أثناء الحرب لأنّ والدي يرغب في تخفيف عبء نزوحي عنه بعد قصف منزلنا، ويُقلّل من نفقات الأسرة"، تقول حنين مروان (16 عام). وكان لم يمضِ على تاريخ ميلاد الفتاة الخامس عشر بضع أيام، عندما زُفت إلى رجلٍ مُتزوج يكبُرها بـ 29 عامًا ولم تملك من يدها قرارًا للرفض.
تتابع حنين (*) حديثها: "نحن 7 أخوات، نزحنا مع والديّ من شمال غزة إلى جنوبها، وكان والدي لا يجد في كثير من الأحيان ما يُنفقه علينا بعدما خسر عمله"، فيما رأت عائلة حنين في الزواج مخرجًا لإسناد مسؤولية بناتهم في الطعام، والملبس، والحماية للزوج.
يرى المختصين في الظروف الاقتصادية المُتردّية والأمنية المُتوترة، جوابًا لسؤال: "لماذا يُزَوِّج الأهالي بناتهم في الحرب؟" ففي غزة يعاني 100% من السكان الفقر، في ظلّ تجاوز البطالة لمعدّل 80%، وسط ظروفٍ أمنّية مُعقدّة نتيجة طول أمد الحرب الإسرائيلية المستمرة من 2023- الآن.
ووفقًا لورقة بحثية صادرة عن مركز شؤون المرأة، يرى بعض الأهالي في تزويج بناتهم حمايةً من العنف أو التشرُّد، خاصةً في مراكز الإيواء المزدحمة. لكن هذه "الحماية" تأتي بثمنٍ باهظ: حرمان الفتيات من التعليم، وتعريضهن لمخاطر صحيّة، ودفعهن إلى دائرة الفقر المزمن.
تقول المحامية آية الوكيل: "نرى حالات كثيرة في المحاكم تتعلّق بفتياتٍ بعمر 16 أو 17 سنة. القانون يسمح بالاستثناءات، وهذه الثغرة تُستغل بكثافة". وغالباً ما تنتهي الإجراءات القضائية بمجرد إتمام عقد الزواج، دون محاسبة أولئك الذين يتجاوزون الروح الحقيقية للقانون.
وتنحصر الأسباب وراء زواج الطفلات خلال الحرب في الهروب من عبء الإعالة في ظلّ الظروف الاقتصادية المنعدّمة جرّاء تكرار عمليات النزوح وارتفاع معدّلات الفقر، حيثُ تُشير العديد من الدراسات إلى أنّ نسب حالات الزواج المُبكر تزداد في المناطق التي تُعاني من الأزمات الإنسانية والنزاعات والحروب والتي ينتشر فيها العنف والفقر والتهجير.
إضافة إلى ذلك، دفع انعدام الأمن والخصوصية الآباء نحو تزويج بناتهم لحمايتهنّ والحفاظ على سلامتهنّ، إذ يخشين تعرضهن للمضايقات والاعتداء الجنسي والتعرّض للتحرّش في مراكز الإيواء ومدارس النزوح والمخيمات نتيجة الاكتظاظ المهول.
غير أنَّ المحامية الوكيل تعتبر أنَّ العادات والتقاليد تلعب أيضًا دورًا كبيرًا في هذه الظاهرة، وعلى الرغم من أنّ تزويج الطفلات موجود في المجتمع الفلسطيني من قبل الحرب، إلا أنّ الحروب والنزاعات تساهم في العودة إلى التقاليد الأكثر تشددًا.
تقف وراء تحذيرات المختصين من الزواج المُبكر جُملة من الآثار الصحيّة والاجتماعية، التي تتسبب في العديد من المشاكل منها ما هو على الجانب الصحي وما يصل إلى تهديد حياتهن عندما يُجبرن على تحمل أعباء الأمومة قبل أن تكتمل طفولتهن، وأخرى على الجانب النفسي والاجتماعي الذي يُؤدي إلى مخاطر كبيرة ويؤثر سلبًا على تقدُّم المجتمع بشكلٍ عام.
من ناحيةٍ صحيّة، تقول طبيبة النساء والتوليد رانية البسوس إنَّ زواج الأطفال غالبًا ما يُعرّض صحة المرأة للخطر إذ يتسبب بحمل وولادة مُبكرة ومتكررة؛ ما يتسبب في ارتفاع معدّلات الأمراض والوفيات لدى الأمّهات.
تُردف: "الكثير من المُراهقات المتزوجات لا يكون لديهن دراية بطرق منع الحمل والأمراض المنقولة جنسيًّا"، وهُن معرّضات أكثر من غيرهن لخطر الموت لأسباب تتعلّق بالحمل والولادة.
وفقاً لتقرير الأونروا، تعاني 99% من الحوامل في غزة المُقدَّر عددهم بأكثر من (55 ألف) امرأة حامل، من صعوبات في الوصول إلى الرِّعاية الصحيّة الأساسية، بينما يُعاني 90% من النساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة من سوء التغذية الحادّ نتيجة ظروف الحرب.
وفي ظلّ خروج العديد من المستشفيات والعيادات الطبيّة عن الخدمة في قطاع غزة، تروي علا جميل (17 عاماً) كيف كادّ حملها أن يُودي بحياتها: "كنت أتنقل بين العيادات المدمّرة، والأدوية نادرة، والقصف لا يتوقف".
تقول علا (*) التي تقطن في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، إنّه في معظم الأحيان كانت تُجبر على الذهاب لمسافات طويلة لتجد عيادة أو مستشفى يمكنها استقبالها، لكن غالبًا ما كانت تجد تلك الأماكن إما مدمرة تمامًا أو تفتقر إلى المعدات الأساسية.
مضاعفات الحمل كانت تتزايد، وكانت علا تشعر بألم شديد بسبب نقص الأدوية اللازمة لعلاجها. "كان الحمل صعبًا جدًا، وكان جسدي غير جاهز لتحمُّل هذه التجربة". تُتابع بصوتٍ متقطع، وتضيف: "رأيت الموت عدّة مرات بسبب إهمال الرعاية الصحية، ولم يكن لدي أي خيارات أخرى."
وتُقدَّر الدراسات أنّ تحدّيات الرِّعاية الصحيّة للأمهات المراهقات، تتفاوت ما بين تحدّيات غذائية، فقر دم، زيادة معدّلات الإجهاض، الولادة المبكرة، اكتئاب ما بعد الولادة، وذلك بنسبٍ تقديرية متفاوتة بين كل تحدٍّ منهم.
على صعيدٍ آخر، يُعرِّض الزواج المُبكر الفتيات لمخاطر نفسية واجتماعية مثل الاكتئاب والانعزال الاجتماعي، ويحدّ من فرصهن في التعليم والعمل. يقول المختص الاجتماعي درداح الشاعر إنّ أحد أبرز المشكلات المجتمعية الناجمة عن هذه الظاهرة هو الطلاق المبكّر وانتشار العنف الأُسري؛ بسبب صغر سنّ الزوجين وعدم وعيهم الكافي في آلية بناء الأسرة.
من هؤلاء كانت دالية خضر (*) ذات الستة عشر عامًا، تقول: "تعرّضت للعنف والضرب من زوجي، وطردّني من البيت عدّة مرات حتى تطلقنا"، فيما تعيش الطفلة المطلّقة اليوم بلا تعليم وتُعيل نفسها من المساعدات والصدَّقات وطعام التكايا.
ويرتبط الزواج المُبكر بالفقر ارتباطًا وثيقًا، بحسب الشاعر، الذي يرى أنَّ زواج الأطفال يشكل عائق في تحقيق مستويات تعليم أعلى إذ يمنع الطفلة من مواصلة تعليمها، وبحسب التجارب الحيّة خاصّة في ظلّ الحرب لم تكمل الكثير من المُراهقات المتزوجات تعليمهن بعد الزواج في ظلّ عدم وجود بيئة تعليمية مستقرّة أيّضًا.
أما من الناحية القانونية، تقول المحامية الوكيل: "على عكس القوانين الدولية التي تحظر الزواج دون سنّ 18، يسمح القانون الفلسطيني بزواج من هم دون هذه السنّ". على الرغم من أن قانون العائلة الفلسطيني لسنة 1954 يشترط أن يكون عمر الخاطب 18 عامًا والمخطوبة 17 عامًا، فإنّ المواد (6,7) تتيح للقاضي السماح بالزواج لمن هم أصغر إذا ادّعوا البلوغ.
كما سمح القرار الإداري رقم (87) لسنة 1995 بتزويج الشباب من 15 سنة و7 شهور والفتيات من 14 سنة و7 شهور في قطاع غزة. بينما تمنع المادة (8) من القانون تزويج الأطفال الذين لم يبلغوا 12 عامًا. تشير المحامية أيضًا إلى أنّ قانون العقوبات الفلسطيني لا يحمي الفتيات من الزواج المبكر، سوى إذا تم دون موافقة أوليائهن.
هذه الثغرات القانونية، خاصة مع تعطّل المحاكم خلال الحرب، أدت إلى زيادة الزواج المبكر في غزة كـ "مخرج" للأسر من الأزمات الاقتصادية والأمنية؛ ما يستدعي مراجعة عاجلة للتشريعات لحماية الطفولة.
وتُظهِر النسب التقدّيرية المحلية أن نسب الزواج خلال الحرب على غزة المُسجل رسميًا لمن هم فوق 17 سنة تتراوح بين 50-60%، مع انخفاض بسبب صعوبة الوصول إلى المحاكم، بينما تصل نسبة الزواج غير المسجل لكنه موثق خارجيًا إلى 20-30%. أمّا حالات الزواج تحت 17 سنة فتشكِّل 10-20%.
وفيما يتعلق بمنع الزواج تحت 15 سنة، يلتزم 60-70% بالقانون، لكن 15-25% من الحالات لا تزال غير مسجلة، بينما تقع 5-10% ضمن الاستثناءات المسجلة بشهادة طبية. بالنسبة للحد الأدنى البالغ 15 سنة، فإن 40-50% من الزيجات مسجلة رسميًا، و30-40% موثقة بشكل غير رسمي، بينما 10-20% تكون تحت السن القانوني وغالبًا غير مسجلة.
هذه الأرقام تعكس كيف تُفاقم الأزمات الإنسانية من انتشار الزواج المبكر كأحدّ أشدّ التحدّيات المجتمعية في قطاع غزة، وفقًا لما أشار إليه المختص الاجتماعي الشاعر، الذي أكّد أنّ هذه الظاهرة تستدعي تعزيز التوعية بالأضرار وتعديل القوانين التي تتيح استثناءاتٍ تُستغلّ ضد الفتيات. كما يتطلّب الحلّ تشديد التشريعات، ودعم الفتيات نفسياً وتعليمياً، ومواجهة الأسباب الاقتصادية والأمنيّة الدافعة لهذه الظاهرة.
لكنَّ المواجهة الحقيقية تبدأ بمعالجة جذور المشكلة المتمثلة في الفقر وانعدام الأمن. إنها مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع لحماية حقوق الفتيات وضمان مستقبل أفضل لهن. فالطفولة حقّ أساسي لا يجوز التهاون في حمايته أو التضحية به تحت أيّ ظرف.
(*) أسماء مستعارة
موضوعات ذات صلّة:
صحة غزة: 60 ألف فلسطينية حامل بالقطاع يعانين من سوء التغذية
أمهات: الحرب فرضت توقيت الولادة
غزة: هكذا تصبح الأرملة بطلة أدوار مستحيلة
زواج القاصرات في غزة