أمراض بلا علاج: مهما تماسكتم الجلد لا يكذب

الأزمة تطفو على الأجساد:  

أمراض بلا علاج: مهما تماسكتم الجلد لا يكذب

أمام مرآة صغيرة مثبتة على باب خيمتها وسط قطاع غزة، تتوقف صباح محمد (51 عاماً) عند انعكاس وجهها الذي لم تعد تعرفه. بين الخطوط العميقة التي حفرّتها الأشهر الأخيرة، تبرز بقع البهاق الجديدة كخريطة صامتة للألم. 

قبل الحرب، كانت تعاني من بقعة وحيدة في وجهها نتاج أزمة نفسية ألقت بها طريحة الفراش لأيام؛ لكن مع تصاعد القصف والنزوح والمعاناة اليومية، تحوّل جسدها كلّه إلى شاهد على الصدمة.

جابت "صباح" كل الطرقات بحثت في كل الصيدليات في غزة، تبحث عن مرهم يُبطئ زحف البهاق الذي يتفشى في جسدها، لكن بحثها باء بالفشل. "العلاجات المتوفرة مسكنات لا تفيد بشيء"، تقول وهي تفرك يديها المتشققتين.

"تحملت ما لا أطيق"، تضيف بصوتٍ يختفي بالدموع وهي تزيح الشال الأسود عن رقبتها، لتكشف عن بقعٍ أخرى تلمع تحت أشعة الشمس المتسللة إلى الخيمة. "بيتي دمر، ابني استشهد، وابني الآخر أصيب. والآن جسدي يتهاوى".

آلاف الحالات في قطاع غزة تُعاني من أمراض جلدية مناعية كالبهاق والصدفية والثعلبة، تتفاقم بسبب الضغوط النفسية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية، في ظلّ معاناة نحو 67% من السكان من اضطرابات ما بعد الصدمة التي تتقاطع مع ارتفاع نسب المرض الجلدي المناعي، حيث أصبحت بمثابة مؤشرات مرئية للأثر النفسي للصراع على الصحة الجسدية. 

في ظلّ هذه الظروف، تواجه الصيدليات نقصاً حاداً في الأدوية الأساسية لعلاج هذه الأمراض؛ مما يفاقم معاناة المرضى. وتؤكد تقارير وزارة الصحة نفاد 37% من الأدوية الأساسية و59% من المستلزمات الطبية، ما يترك المرضى دون علاج مناسب لحالاتهم التي تزداد سوءاً يومياً.

طبيب الأمراض الجلدية، إبراهيم حبوب يتحدّث عن تنامي كبير لهذه الأمراض لم يحدث منذ سنوات: أمراض تتفشى، وأخرى نادرة وقديمة تعود بقوة، فيما تنتج هذه الإصابة بها عن اضطرابات في الجهاز المناعي تسببها الضغوط النفسية الشديدة، حيث يبدأ الجسم بمهاجمة نفسه بدلاً من حمايته. 

وتُشكِّل هذه الظاهرة تحدّياً طبياً إضافياً في ظلّ الأزمة الإنسانية المستمرة، حيث تتداخل الاحتياجات الجسدية والنفسية دون توفر الإمكانات الكافية للعلاج.

في زقاقٍ بين خيام النازحين في دير البلح وسط قطاع غزة، تلعب ياسمين خليل (9 أعوام) بقبعتها الحمراء البالية، بينما تشدّها إلى الأسفل لتُخفي ما تبقى من شعرها كلما سمعت ضحكات بنات الجيران اللواتي يسخرن منها.

"بنات المخيم بضحكوا عليّ لأنه ما عندي حواجب ورموش، وعندي كتير فراغات بشعري"، تقول الطفلة باستحياء وهي تلمس رأسها بعينين لا ترفعهما من الأرض.

تقول والدتها وهي تمسح بيدها الخشنة على ما تبقى من شعر ابنتها: "ابنتي تخاف جدًا من القصف وكلما توترت الأوضاع الأمنية أكثر لاحظنا انتشار الثعلبة في رأسها، لكنّ ماذا أفعل؟ الأدوية باهظة ونحن بالكادّ نوفر الخبز".  

ياسمين واحدة من مليون طفل في قطاع يحتاجون للرعاية والدعم النفسي بسبب ارتفاع معدّلات القلق والاكتئاب، فبحسب تقدّيرات اليونيسف، كل طفل في غزة يحتاج إلى دعم نفسي. لكنَّ كيف تُداوي جرحًا لا يُرى، عندما تكون الأدوية نفسها غالية ومُعدّمة؟ تُعقّب الأم بحزن.

وعلى غرار هذه الطفلة هناك المئات أيضًا، يقول الطبيب حبوب: "الثعلبة أصبحت الأكثر انتشارًا، خاصة بين الأطفال. لدينا حالات زادت بنسبة 300 إلى 500% منذ بداية الحرب". 

ويعرِّف حبوب الثعلبة بأنّها عبارة عن خلل مناعي في الخلايا الليمفاوية فبدلًا أن تكون وظيفتها الدفاع عن الجسد تتحوّل فجأة لمهاجمة خلال الخلايا الشعر ليبدأ بالتساقط نتيجة للضغط النفسي.

صلاح أحمد (25 عامًا)، أيضًا أحدّ المصابين بالثعلبة، وقد كان في السابق يفخر بشعره الكثيف بين أصدقائه، لكنه بدأ يتساقط وتظهر الفراغات فيه فجأة، ولاحظ ظهوره بالتزامن مع حالة اكتئاب أصابته بعد فقدّانه لأعز أصدقائه في قصفٍ إسرائيلي أمام عينيه.

"أخشى أن يمتد تساقط الشعر ليصل إلى حاجبي ورموشي، خاصة أنني لم أتمكن من الحصول على أيّ علاج" يقول صلاح الذي يضطر والده لاختيار الطعام بدلاً من الأدوية، في ظلّ انهيار القدرة الشرائية لسكان قطاع غزة. فمع ارتفاع الأسعار وإغلاق المعابر، تحوّلت العلاجات الجلدية إلى أولوية ثانوية رغم آلامها الجسدية والنفسية.

حياة إسماعيل (33 عامًا) تُمسك بخصلة من شعرها القصير بضجر بعدما حوّلت الصدفية، فروة رأسها إلى بقع حمراء سميكة متقشرة، تُسبِب حكة وتهيج لا تنتهي، تقول "عندما أخبرني الطبيب إصابتي بالصدفية أُصبت بالانهيار وبقيت شهور أعاني نفسيًا من وقع الأمر".

وبحثت إسماعيل في المستشفيات والصيدليات عن علاج مرضها، وهو شامبوهات وبراهم مخصصة لكنّ دون جدوى، تضيف: " في حرّ الخيمة وقسوة الحرب، لم أعد أحتمل الألم. أمسكت المقص وأنا أبكي قهرًا، وقصصت شعري الطويل حتى أذنيّ".

"الطبيب نصحني بالابتعاد عن التوتر"، تُردف وهي تضحك بسخرية من قسوة الواقع. "كيف؟ وأنا أسمع دويّ القذائف ليل نهار؟ كيف أهدأ وأنا لا أعرف إن كنت سأعيش حتى الساعة القادمة، كيف لا أتوتر وليس لديّ قوت يوم واحد؟".

ويُشير المختصون إلى تسجيلهم حالات لأمراض جلدية لم تكن منتشرة في غزة منذ سنوات، مثل: الجرب والالتهابات الفطرية التي تأتي بسبب سوء النظافة ونقص المياه، خاصّة في ظلّ انتشار الخيام وتعطّل شبكات الصرف الصحي. وأيضًا تفاقم الإكزيما والحساسية الجلدية بسبب الغبار والأنقاض الناتجة عن القصف.

كما يؤكد مختصو علم النفس أنّ العلاقة بين الصحة النفسية والأمراض الجلدية تتجاوز التأثيرات النفسية المباشرة، بل تمتد لتشمل التفاعلات البيولوجية المعقدة التي تؤثر في جهاز المناعة ووظائف الجسم المختلفة.

في غزة، حيث الموت يطلّ من كل زاوية، أصبح المرض الجلدي وصمة أخرى تُضاف إلى سجل المعاناة. وكما يقول الطبيب حبوب: "الجلد هو الوحيد الذي لا يستطيع الكذب. إنّه يروي القصة كاملة، حتى عندما نختار نحن الصمت".

في غزة، أصبحت الأمراض الجلدية دليلاً على انهيار النظام الصحي والاقتصادي، حيث تزيد ظروف الحرب القاسية من المعاناة، وتحوِّل الصدمات النفسية إلى أمراض جسدية مرئية، دون وجود حلول أو أدوية كافية.

 

موضوعات ذات صلّة:

حرب غزة: الأوبئة والأمراض القاتلة التي " تحرق الجلد"

الجرذان والبكتيريا من المسببات.. أمراض جلدية نادرة تظهر في غزة

أنابيب الصرف الصحي تتحول إلى ناقلات وبائية  

غزة: المناخ وجه آخر للمعاناة تحت الحرب