في الساعات الأولى من الصباح، بينما كان يوسف منصور (٣٦ عامًا) ينشر شِباكه في الأراضي الشرقية لقطاع غزة برفقة مائة صيادٍ آخر، انفجرت قذيفة إسرائيلية على مقربة منهم. ترك أدواته وركض، لا يدري كمّ من الوقت استغرقه الهرب قبل أن يتوقف، لاهثًا، يرتجف من البرد والصدمة.
بحث عن وجوه رفاقه، الذين نجوا بأعجوبة. "لم تكن المرة الأولى التي أهرب فيها من الموت، لكني مُضطر للعودة كل يوم. إذا لم أصطاد الطيور، سنموت جوعًا"، يقول منصور، الذي يُخاطر بروحه لقاء توفير ما يسدّ رمق أسرته.
وبفعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي أدّت إلى انعدام الأمن الغذائي، وتفشي المجاعة بين صفوف السكان، تحوّل صيد الطيور من هواية ومهنة تقليدية إلى وسيلة للبقاء. فمع نقص المواد الغذائية وانهيار الاقتصاد نتيجة استمرار إغلاق المعابر، أصبحت العصافير مصدرًا حيويًا للبروتين، خاصّة مع ندرة اللحوم والأسماك.
وتكشف الأرقام عن عُمق الكارثة، فوفقًا للبنك الدولي، انخفض متوسط الدخل اليومي إلى أقل من دولارين، ووصلت نسبة الفقر إلى 100%. فيما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 150% إلى 400%؛ ما أسهم في زيادة الإقبال على الصيد الجائر للطيور.
يصطاد منصور الآن في المناطق الساحلية جنوبي قطاع غزة، حيث يمشي عشرة كيلومترات يوميًا بعد أن أصبحت الأراضي الشرقية خطرة. "زوجتي حامل وتعاني من سوء التغذية. بعض العصافير غنيّة بالبروتين، وهي كل ما يمكنني تقديمه لها"، يقول وهو يفرغ شِباكه التي احتوت على عشرين طائرًا.
لا توجد إحصائية دقيقة حول عدد هواة صيد الطيور في غزة، لكنَّ التقدّيرات تُشير إلى أنّهم تحولوا من هواة إلى صيادين. حيث يصطادون العصافير البلدية، اليمام البري، طائر الفرّ، والتتري، وبدلاً من أن كانوا يربونها ويقمون على رعايتها، تحولت إلى وجبات أساسية، تُشوى على الفحم أو تُقلى بالزيت، وتُقدم مع الأرز أو الخبز إن توفر.
قبل الحرب، كانت تتوافد الطيور إلى الأماكن الشرقية جنوبي القطاع، أو الزراعية حيث بيت لاهيا وبيت حانون شمالاً، أو منطقة الوادي وسط القطاع باعتبارها بيئات غنيّة بالغذاء والمأوى؛ لكنّ بفعل القصف الشديد هربت الطيور من غزة وأصبحت تأتي بأعدادٍ بسيطة ليست كالسابق على ساحل البحر، فيُخاطر مصطاديها ويذهبون في الصباح الباكر لنصب شِباكهم في أماكن تحليقها، كما يقولون، رغم أن الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة.
المختص البيئي عبد الفتاح عبد ربه يُشير إلى أنّ تدمير الغطاء النباتي والحيواني في غزة أدّى إلى انقراض بعض أنواع الطيور، وقال: "الأراضي الزراعية دُمرت بفعل الحرب، والتلوث الضوضائي جعل غزة بيئة طاردة للطيور".
وكشفت دراسة من البنك الدولي أنّ 12% من أنواع الطيور حول العالم انقرّضت بسبب النشاط البشري، مثل الصيد الجائر وتدمير الموائل، والحروب، وهو ما ينعكس على واقع قطاع غزة حيث تحوّل صيد العصافير من مهنة إلى قوت يوم.
وبينما يحظر القانون الفلسطيني صيد الطيور البرية أو الاتجار بها، فإن هذه القوانين أصبحت بلا معنى في مواجهة الجوع. يُضيف عبد ربه: "الفقر المُدّقع يجعل الصيد ضرورة، وليس خيارًا".
محي الدين زناد (40 عامًا)، صياد طيور مهتم في تربية طائر الحسون، يتحدّث عن تناقض مؤلم: "في أوقات سابقة كنت أُفرط في اصطياد الطيور خلال موسم التفريخ، لكني الآن مضطر لفعل ذلك، فنحن جائعون".
وجبة العصافير قد لا تكون مُشبِعة؛ لكنّها على الرغم من ذلك تكفي لسدّ رمق أطفال زناد الخمسة، الذين رغم خوف أمّهم وقلقها الشديد على ذهاب زوجها لصيد أنواع أخرى في الأماكن الخطرة على شاطئ خانيونس جنوب القطاع، ينتظرونه وهم يُطالبون بالمزيد.
أما سهيل عصفور (27 عامًا)، يحمل شباكه المهترئة على كتفه فجرًا، ويضع روحه على كفه، ويتوجه من حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة إلى منطقة الواحة أو الفروسية شمالي قطاع غزة، ليثبت الشِباك على الرمال، منتظرًا فريسته الأولى.
وعلى الرغم من وجود موسم يُسميه الصيادون "الراجع" - وهو موسم عودة الطيور المهاجرة من الجنوب إلى الشمال لتتكاثر، والذي يمتد من فبراير حتى مايو ويكثر فيه طائر السمان خاصّة - إلا أنّ سهيل لم يعد يستطيع الذهاب يوميًا كما كان يفعل قبل اندلاع الحرب.
"أصبحت أتحرى الأيام الأكثر أمانًا الآن، فالأوضاع الأمنية غالبًا متوترة، وعندما أعود بالغنيمة، يفرح أطفالي لأنَّ طعام اليوم سيكون فيه لحم"، يُضيف بينما يُشير إلى طيوره القليلة، فقبل الحرب، كان سطح منزله مزرعة كاملة للطيور، لكنَّ الآن لم يتبق سوى ستين طائرًا من أصل مئتين.
وعلى غرار مصطادو الطيور لم ينجُ مربو الطيور من تدّاعيات الحرب المستمرّة منذ تسعة عشر شهرًا. جمال سلامة (40 عامًا) من المحافظة الوسطى، ورث المهنة عن والده، وكان يعمل كدهان إلى جانب تربية الطيور.
أما اليوم أصبحت تربية الطيور مصدر رزقه الوحيد، لكنّه يعاني من شُح الأعلاف والأدوية للطيور. "البيع شحيح، لكني أتدبر أموري ببيع بعض الطيور"، يقول وهو يُحصي خسائره التي وصلت إلى (50) ألف شيكل، نحو (13,500) دولار.
يهتم سلامة بطيوره ويصفها أنّها لها مكانة في قلبه، على اعتبار أنّه قام بتربيتها لوقت طويل. وفي غياب طعام العصافير، يطحن الخبز والبرغل ويجمع الأعشاب لإطعامها. بينما اضطر آخرون مثل محمد مصطفى (36 عامًا) إلى إطلاق سراح بعض طيورهم لعدم مقدرتهم على تحمل تكاليف تربيتها. "طيوري تموت بسبب الطعام البديل كالأرز المطحون والشوفان والبازيلا المعلبة"، يقول وهو يهرس الأرز بيديه.
في غزة، حيث صارت الطيور وجبة بدلًا من بهجة، يطرح الواقع المرير سؤاله: كم من الزمن يمكن أن يظلّ الإنسان صامداً أمام حرب تجعل من اصطياد عصفور مغامرة حياة أو موت؟
صيد الطيور ف يغزة