مهندسة ديكور تبث الروح في حطام الشقق والمقاهي

باستخدام مواد معاد تدويرها

مهندسة ديكور تبث الروح في حطام الشقق والمقاهي

وسط أكوام الحجارة المتناثرة داخل شقة سكنية بحي الرمال وسط مدينة غزة، تتوقف المهندسة لينا اليازجي (35 عامًا) أمام عمودٍ وحيدٍ ما زال يقاوم الانهيار.

تمسح بيدها الغبار عن سطحه المتشقق، ثم تُدوّن في دفترها الأخضر "رفيقها الدائم" قياساتٍ دقيقةً تتحول لاحقًا إلى خطوطٍ على الورق. 

تُغمض عينيها لثانية، وكأنها تستعيد صورة المكان قبل أن تلتهمه الحرب، وسط هذا الركام كان بيت وغرفٌ تنبض بالحياة، واليوم لم يتبقَّ سوى جدرانٍ شوّهتها القذائف؛ لكنَّ اليازجي لا تتعامل مع الحجارة فقط؛ بل مع أناسٍ وضعوا "تحويشة" العمر في هذه الجدران وجمعوا ذكرياتٍ لا تُنسى.  

منذ طفولتها كانت التصاميم والتنسيق والألوان تحوزان على اهتمام لينا، فكانت مُبدعة بشهادة عائلتها، رافقها الشغف طوال سنوات حتى أضحت مهندسة ديكور تتقن تقنيات الرسم الهندسي وتصميم المنازل.

"لطالما شجعتني والدتي منذ عمرٍ مُبكر على تنسيق البيت واختيار ألوان أثاثنا، ووالدي أيضًا كان مؤمنًا بذوقي وإبداعي"، تُضيف وهي تبتسم مستذكرة بيتهم الذي كان أول أعمالها في عالم تصميم الديكور؛ لكنّه قُصف خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت في أكتوبر 2023، ومع ذلك هي تُصرّ على إعادة تصميمه من جديد.

في أواخر عام 2023، دُمر مشروعها الصغير الذي أسمته "فينزا" للديكور خلال القصف الإسرائيلي على غزة، وفي ذلك الوقت كانت لينا نازحة إلى محافظات جنوب قطاع غزة، وبعد 15 شهرًا من النزوح عادت إلى مدينة غزة لتفاجأ بأنّ طلبات الترميم تتدفق عليها.

"لم أعد أستطيع الانتظار"، تقول وهي تفحص منزلًا أحالته النيران لرماد، "البعض يعتقد أنّ إصلاح الجدران رفاهية في ظلّ استمرار الحرب والتدمير الحاصل، لكنّه بالنسبة للناس خطوةٌ لاستعادة جزءٍ من حياتهم".

من الناحية القانونية، يُعتبر تدمير المنازل انتهاكًا صارخًا للمادة 51 من البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف، والمادة 8 من ميثاق روما، التي تحظر استهداف الممتلكات المدنية؛ لكن القانون يبدو بعيدًا هنا.

منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، يتصاعد عدد تدمير الوحدات السكنيّة في قطاع غزة جرّاء استمرار الحرب الإسرائيلية، ويُقدِّر المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، أنّ الوحدات السكنية التي دُمِّرت بالكامل 165 ألف وحدة، يُضاف إليه 115 ألف وحدة أصبحت غير صالحة للسكن، فيما تضررت 200 ألف وحدة ضررًا جزئيًا.

ترفض المهندسة اليازجي أن تكون هذه الأرقام مجرد إحصاءات. "كل رقم هو بيتٌ فقدَ طفله ضحكته، أو عائلةٌ تفرّقت بين مخيمات النزوح والتشرّد"، تُعلِّق بينما تفحص جدارًا متآكلًا في مقهى صغير حيث تنتقل من ورشة إلى أخرى وسط معيقات كبيرة.

تحت الحصار ونقص المواد، تحوّلَت لينا إلى مهندسةٍ لضروراتٍ لا تُحتَمل التأجيل. الأسمنت نادر، والخشب باهظ الثمن، حتى الجبص أصبح سلعةً تُقتنى. 

لكنّها تعيد تدوير الركام، تقول: "تُكسّر الخرسانة المتبقية إلى حصى ناعم، وتخلطها ببقايا الإسمنت لصنع خرسانة جديدة". وبينما تُشرِف على تنظيف أنقاض منزلٍ في حي الصبرة جنوب مدينة غزة، تُردف: "نحن نبتكر لأننا لا نملك خيارًا آخر".  

وفي ترميم حاضنة أعمالٍ الشباب "تكنو تايم" واجهت تحديًا أكبر: تصميم مساحة عملٍ باستخدام مواد مُعادّ تدويرها بالكامل. الجدران صبغتها بألوانٍ دافئة، والأثاث صنعته من ألواحٍ خشبيةٍ مُستصلحة. "الجميع يتحدّث عن إعادة الإعمار، لكننا لن ننتظره وسنعمل حتى لو كانت المواد من العصور الحجرية"، تضيف ضاحكةً.  

خلال إحدى زياراتها، صادفت عميلًا سبق أن صممت له شقته السكنية قبل الحرب، وطوال الحرب لم يتمكَّن من العودة إليها بسبب النزوح، وحين عاد وجدها كومة من الركام.

تنقل المهندسة لينا عنه بصوتٍ مكسور: "لم أسكنها بعد، لم أفرح عليها". فيما ردّت عليه بنبرةٍ تحمل ذات الألم: "وأنا أيضًا لم أجلس على مكتبي الجديد". تلك اللحظة، كما تصفها، لخّصت كل المأساة: "نحن نرمم بيوتًا قد تدمر مرة أخرى غدًا".  

اليوم، ترفض لينا العمل على مباني آيلة للسقوط، لكنّها تُصرّ على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتضع يدها في يدِ شقيقتها الصغيرة التي تتبع خطاها في الهندسة وتُعيدان رسم غزة بعزمٍ وأمل كبيرين. 

"سأصمم مطعم القلعة من جديد، والعيادات التي دمرت، وكل بيتٍ يحمل قصصًا لم تُحكى بعد"، تقول وهي تُنهي يومها في المقهى الذي تعمل على إعادة ترميمه. وتجلس على حجرٍ في زاوية المكان، لتشرب كوبًا من الشاي، مُتطلعةً إلى مدينةٍ تعرف أنَّها ستعود يومًا كالعنقاء، أو على الأقل هكذا تصفها.

 

موضوعات ذات صلّة:

أهالي غزة يعودون للعيش في منازلهم المدمرة

في قطاع غزة أحمد يعيد ترميم منزله من الحطام

من ركام الحجارة فلسطيني يعيد بناء منزله بالكامل

مهندسة ديكور في قطاع غزة تسعى لترميم أماكن دمرها الاحتلال