محدودية الموارد: تستنزف طاقة وعائدات العاملين عن بعد

محدودية الموارد: تستنزف طاقة وعائدات العاملين عن بعد

في غرفةٍ مكتظةٍ بأصوات لوحات مفاتيح أجهزة اللابتوب وطرقات "الفأرة"، يجلس سامح الكحلوت (26 عامًا) الذي يعمل مصمماً، محاولًا تركيز نظره على شاشة حاسوبه المحمول، ومثله وجوهٍ أخرى منكبة أمام أجهزة تشحن بالطاقة الشمسية. 

هنا، في إحدى مساحات العمل، التي تُشبه خلية نحلٍ هادئة، بشارع الوحدة وسط مدينة غزة، تنتج الأجهزة المحمولة قصصًا عن تحدٍّ يومي. "كل ساعة عمل هنا إنجاز"، يقول سامح بابتسامةٍ مريرة، بينما يحاول استعادة عملائه الذين تشتتوا بعد انقطاعه عن العمل لشهورٍ طويلة بفعل الحرب.

لم تكن هذه المساحات جزءًا من مشهد غزة قبل أكتوبر 2023 على هذا النحو؛ لكن الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ ذلك الحين، دمّرَت البنى التحتية وأرغمت السكان على بذل محاولات قسريّة للعيش تحت الحصار.   

الكهرباء التي كانت تأتي لساعاتٍ محدودة تحوّلت إلى سلعةٍ نادرة، والإنترنت الذي يربط الغزيين بالعالم أصبح محدودًا أيضا وغير متاحًا في كثير من الأحياء والمناطق؛ مما جعل "مساحات العمل" ملاذًا لأولئك الذين يحاولون استعادة حياةٍ مهنية شبه طبيعية على الرغم من أنَّ الدقائق تُقاس فيها بحساب تكلفة الطاقة.

ينخرط في مساحات العمل الكثير من الشبان الذين يعملون في مجال العمل عن بُعد والذين أثرّ اندلاع الحرب وانقطاع شبكات الانترنت على أعمالهم بالسلب، فيما قدّرت دراسة بحثية أُعدّت قبل الحرب نسبة الشباب في قطاع غزة الذين يُحققون دخلًا من منصات مثل مستقل وUpwork  وFreelancer بـ 12%.

عاد الشاب الكحلوت إلى حيّه في الشيخ رضوان شمال مدينة غزة بعد 14 شهرًا من النزوح جنوب القطاع، ليجد أنّ العودة إلى الروتين السابق من العمل في البيت ضربٌ من الخيال في ظلّ انقطاع شبكات الانترنت وضُعف المتوفر منها. 

"كنت أظن أنّ الأسوأ هو النزوح نفسه، لكن اكتشفت أنَّ محاولة العمل وسط دمارٍ أكثر كارثية". يشير إلى اجهاده في حمل حاسوبه المحمول في النزوح، ومحاولاته المُرهقة في التقاط إشارة إنترنت عابرة، بينما تحوم طائرات الاستطلاع فوق رأسه. 

أما اليوم، يدفع سامح 150 دولارًا شهريًا مقابل 6 ساعات عمل يومية، وهو مبلغٌ يساوي نصف دخله السابق، لكنَّه الثمن الوحيد لمواصلة عمله عن بُعد.

على نحوٍ غير بعيد، تقطع أسيل أبو سلطان (25 عامًا) مسافة يومية تزيد عن 15 كيلومترا يومياً بحثاً عن مساحة عمل. لم تكن أسيل تعلم أن رحلتها اليومية من جباليا شمالي القطاع إلى مدينة غزة ستصبح أشبه برحلة سفر. كل صباح، تتشبث بحقيبتها التي تحتوي على حاسوبها و"شاحن طوارئ" صغير، بينما تقطع مسافتها ذهابًا وإيابًا سيرا على الأقدام عبر شوارعٍ تعج بالركام والأنقاض. 

"في كثير من الأيام الغائمة أصل إلى مساحة العمل لأجد أنّ الكهرباء لا تعمل بسبب نفاذ شحنة البطاريات المشغلة بالطاقة الشمسية"، تقول وهي تفحص هاتفها بحثًا عن أيّ إشعار من عملاء فقدتهم واحدًا تلو الآخر. خلال ثمانية أشهر من الانقطاع الكلي، اكتظ بريدها الإلكتروني بالرسائل غير المقروءة، وفقدَت 70% من عملائها في مجال التصميم الجرافيكي.

المشكلة لا تقتصر على البنية التحتية. فتروي أسيل كيف خسرت 1200 دولار بعد أن نفذت لعميل عربي أعماله دون مقابل، بينما اضطر سامح لرفض مشاريع دولية لأنّ مواعيد التسليم تتطلب عملًا ليليًا – وهو أمرٌ صعب للغاية مع ظروف الحرب.    

في الطابق العلوي من مقهى تحوّل إلى مساحة عمل في حي الرمال وسط مدينة غزة، تحاول مشيرة الحداد (35 عامًا) إعادة بناء حياتها المهنية في العمل مع شركة كويتية كمهندسة معمارية، بعدما تعرّضت لإصابة خلال الحرب تركتها عاجزة عن العمل لعشرة أشهر.

وعندما تعافت المهندسة الحداد وقررت العودة إلى العمل وجدت الكثير من الصعوبات أمامها، تقول: "العمل في مجال الهندسة المعمارية لا سيما إنجاز المخططات العمرانية يتطلب ساعات متواصلة من الكهرباء، وهو أمر غير متاح في القطاع إلا بتكاليفٍ خيالية، ونتيجة لذلك أصبحت أنجز مهام محدودة فقط بشكلٍ شحيح جدًا حتى أنني متعطلة عن العمل تقريبًا."

وفق دراسة لمعهد الدراسات الفلسطينية (2023)، تظهر اعتماد آلاف الخريجين الغزيين على العمل الرقمي كملجأ أخير وسط محدودية فرص العمل. وتُظهر البيانات أن 70% من مشاريع العمل الحرّ انهارت خلال الحروب السابقة بسبب انعدام الحماية القانونية، وهو ما يتوازى مع فقدان سامح وأسيل لعملائهما خلال الحرب الحالية.

وسط هذا المشهد القاتم، تظهر بقع ضوء صغيرة. في أبريل 2024، أطلق شريف نعيم وهو مهندس برمجيات فقد عمله في قصفٍ إسرائيلي لمدينة غزة، مبادرة "طاقات" من غرفةٍ مستأجرة وسط قطاع غزة. 

بدأت مبادرة نعيم بثمانين شابًا، ثم توسعت إلى خمسة فروع، تعمل بالطاقة الشمسية. "المشتركون هنا متعطشون لمساحات من هذا النوع فأعدادهم تتزايد يومًا بعد يوم"، يقول شريف. لكن النمو السريع للمبادرة جعل متطلباتها تزداد فقرر نعيم أن يدفع المشتركون 50 دولارًا شهريًا، وهو مبلغ رمزي مقابل مساحات العمل المدفوعة يُمكِّنه من تغطية تكلفة خدمات الانترنت والكهرباء.

في خضمّ دويّ القذائف وانعدام الاستقرار الذي يلفّ قطاع غزة جرّاء الحرب، اضطر الكثير من الشُبان العاملين عن بُعد لترك أعمالهم. منهم طاهر قويدر (23 عامًا) وهو مُطوّر ويب كان يعتمد على عمله عن بُعد مع شركة أجنبية، تحوّلت حياته في الحرب إلى سلسلة من النزوح المتكرر والصراع اليومي ضدّ انقطاع الكهرباء وشبكة الإنترنت. 

لم يكتفِ واقع الحرب القاسي بانتزاع إمكانية الاتصال بالعالم الخارجي من قويدر؛ بل أجبره على الانهماك في همومٍ أكثر بدائية، كالبحث عن ماء نظيف، وتأمين لقمة عيش لعائلته، في مشهدٍ يعكس انهيارًا شبه كامل لنمط الحياة الحديثة تحت وقع الحصار والحرب.

جرّاء الحرب، يتحمّل العاملون عن بُعد أعباءً ثقيلة، يقول قويدر: "مساحات العمل المشتركة تُكلّفنا أضعاف ما نُنفقه على الطعام، وازدحامها يُحوّلها إلى فضاءٍ خانق"، وعلى الرغم من كل هذا، ترفض الشركة السابقة التي كان يعمل فيها قويدر تجديد عقده خوفًا من عدم قدرته على الالتزام معها نتيجة ظروف الحرب المواتية.

قبل الحرب، كان العمل عن بُعد شريان حياة للشباب الغزّي، خاصةً مع بطالةٍ تجاوزت 45% وفرصٍ محدودة داخل القطاع المحاصر؛ لكن الحرب الإسرائيلية الحاليّة حوّلت هذا الفضاء إلى عبء ثقيل على العاملين في خضمه. 

يُقدّر متوسط الدخل الشهري للعاملين عن بُعد في قطاع غزة بين 1000 و3000 شيكل، مع تفاوت يعتمد على الخبرة، نوعية المشاريع، وعدد الساعات المنجزة، وبما أنّ تكلفة الاشتراك الشهري في مساحات العمل تتراوح ما بين (150- 200$) فإنّ النسبة التقدّيرية المتوسطة لما يدفعه مرتادو مساحات العمل مقابل رواتبهم الشهرية تتراوح حول 41.7% من دخلهم الشهري تقريبا.

ويُشير استبيانٍ أجرّته "آخر قصة" على مجموعة من مرتادي مساحات العمل، إلى أنّ 95% من العاملين عن بُعد منهم يدفعون أكثر من ربع دخلهم مقابل خدمات العمل، بينما يخسر 60% منهم عملاءهم كل ثلاثة أشهر في المتوسط بسبب التأخير في التسليم.

يوضح أحمد أبو قمر، المحلل الاقتصادي، أن الازدهار النسبي لقطاع العمل عن بُعد بدأ خلال جائحة كورونا، حيث وفّر للخريجين مدخولًا يعبر الحصار. أمّا اليوم، حتى هذه الفرص لم تسلم: "غياب التنظيم الحكومي وانهيار البنية التحتية خلال الحرب جعلا العاملين فريسة سهلة لفقدان الوظائف دون أي ضمانات".  

ويضيف أبو قمر: "ما حدث كشف أن العمل الرقمي ليس بمنأى عن الأزمات. يحتاج القطاع إلى قوانين تحمي العاملين، بدلًا من تركهم أمام خيارين: قبول شروط هشّة، أو العودة إلى طابور البطالة الذي يزداد طولًا كل يوم".

في ظلّ التحديات اليومية التي يواجهها العاملون عن بُعد في قطاع غزة، تُعتبر مساحات العمل المتاحة بمثابة أمل ضئيل في محيطٍ مليء بالمصاعب. ورغم الصعوبات الاقتصادية والظروف القاسية، فإن استمرار هذه المساحات يشكل تذكيرًا بقدرة الإنسان على التكيف مع أسوأ الظروف.

 

موضوعات ذات صلّة:

العمل عن بُعد: عائدات لا تغطي النفقات

قتلت في مهدها: المشاريع الصغيرة تحت الأنقاض

"العمل عن بعد".. بوابة أوصدتها آلة الحرب أمام الباحثين عن حياة

ثلاثية الأزمات تهدد العمل عن بُعد في غزة جرّاء تواصل الحرب

غزة: خدمة الانترنت تواجه الاحتكار والاستغلال