كان الظلام يلفّ غرفة سعاد خالد (*) حين استيقظت للمرة الثالثة تلك الليلة، عيناها تتسعان في الفراغ بينما تلهث محاولةً التقاط أنفاسها. "كابوسٌ جديد عن القصف، كأنّه يعيدني إلى اللحظة ذاتها"، تهمس الأم الثلاثينية بينما تمسك عنقها تحاول الإفلات من قبضة تلُّفها إثر ذكريات قاسية تؤرقها.
منذ أن فقدت سعاد زوجها تحت أنقاض منزلهم في غارة جوية إسرائيلية قبل عامٍ ونصف مطلع الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، تحوّلت حياتها إلى سلسلة من الهجمات الليلية: كوابيس متكررة، ذكريات تطفو كالشظايا، وأطفالها الثلاثة ينامون بجوارها، غير مدركين المعركة النفسية التي تخوضها أمهم.
"أحاول أن أقدِّم لهم الدعم الكافي، لكنني أختنق وروحي تنسحب منّي"، تقول سعاد بينما تلفت بنظرة خاطفة إلى ابنها الأصغر، الذي التصق بها كظلها منذ أن رأى والده يُنقل من تحت ركام منزلهم في منطقة الجلاء وسط مدينة غزة.
لكن معاناتها لم تتوقف عند تأثير ما بعد الصدمة بعد فقدان زوجها؛ فهناك تَدّخل عائلة زوجها في أدّق تفاصيل تربيتها لأطفالها، مما يضيف عبئًا جديدًا على حياتها. تشير بيدٍ مرتجفة إلى باب الشقة في بناية أهل زوجها. "يحاصرونني كأنّني السجين الذي لا يستحق الثقة."
في محاولةٍ لمواجهة أعبائها النفسية، لجأت سعاد إلى عيادة معالجة نفسية أملاً في أن تمنحها الجلسات المُنتظمة أدواتٍ لتحسين حالتها الداخلية وعلاقتها بأطفالها وعائلتها. لكن طريق التعافي اصطدم برفض عائلة زوجها أن تخطو خطوةً خارج البيت دون مرافقٍ منها.
لم يكن حضور المرافق مجرد إجراء شكلي؛ بل تحوّل إلى ظلٍّ ثقيل في الغرفة. تقول سعاد، بنبرّة محبطة: "كانت أعينهم تُراقب كل همسة، كأنني أتلو اعترافاتٍ أمام محكمة. تحوّلت الجلسات إلى مسرحٍ للتمثيل، حيث أخفي نصف حقيقتي خوفاً من أن تصل أصداؤها إلى البيت". هنا، حيث يُفترض أن يكون المرء بلا أقنعة، تحوّل العلاج عبء نفسي آخر.
في غزة، حيث تُحاصر التقاليدُ شظايا الحرب في زوايا النفوس، فتبحث جروحُ الصراع عن ملاذٍ في العلاج النفسي، لكنّها تصطدم بجدارِ العادات. حتى الجلساتُ الفرديةُ تُختَزَل إلى طقسٍ جماعي، فتُدفنُ الصدماتُ تحت ركام من تابو "ممنوعات"، تُستبدل محاولات العلاج بصرخاتٍ مكتومة في وسادة، أو بدمعاتٍ تُذرف خلف بابٍ مغلق ويُمنحُ الشفاءُ بطاقةَ انتظارٍ إلى الأبد.
يُواجه القطاع الطبي النفسي في غزة معضلة وجودية، إذ يتوفر عدد محدود من الإمكانات. على سبيل المثال، يوجد في غزة مستشفى نفسي واحد فقط بسعة 50 سريرًا، ما يعني أن كل سرير يخدم نحو 40,000 شخص، وهو رقم بعيد جدًا عن التوصيات الدولية التي تشير إلى أنه ينبغي أن يتوفر سرير لكل 100 مريض في الحالات المثالية.
أما بالنسبة للأطباء النفسيين، فالوضع لا يختلف كثيرًا؛ حيث يوجد في القطاع عشرة أطباء فقط يخدمون أكثر من مليوني شخص، أيّ بمعدل طبيب واحد لكل 200,000 نسمة. هذا الرقم يُظهر فجوة كبيرة بالمقارنة مع الإرشادات الدولية التي تُحدِّد أن يكون هناك طبيب نفسي واحد لكل 10,000 نسمة.
بالإضافة إلى ذلك، يعاني قطاع الصحة النفسية في غزة صعوبة الوصول إلى الأدوية النفسية بسبب الحصار المستمر منذ عام 2007 والذي اشتدّت وتيرته جرّاء طول أمد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (2023- الآن)؛ مما يجعل الوصول إلى الخدمات النفسيّة محدودًا للغاية.
على بُعد بضع كيلومترات من سعاد، في خيمة بمنطقة مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، تجلس سارة جلال (*) تتأمل ملامح غير واضحة لوالدها وأشقائها خلف شاشة هاتفها المكسورة. الصورة الوحيدة الباقية لهم تظهرهم مبتسمين في حفلٍ تخرجها قبل أن تبتلعهم الحرب.
"نزحت من رفح إلى هنا وأعيش في خيمة تفتقر لمقومات الحياة الآدمية وتُنتهك فيها حقوق الفرد الإنسانية"، تقول سارة، التي اضطرت للعلاج النفسي نتيجة الضغوط الكبيرة التي أثقلتها، بعد حادثة الفقد التي ألّمت بها وانتقالها للعيش في الخيمة.
رافقها زوجها لجلسات العلاج النفسي؛ لكنّ سرعان ما لاحظت أنّها تتجنب مناقشة مواضيع حساسة بسبب وجوده، مما أدى إلى بطء التقدّم العلاجي في حالتها. تقول: "أنا امرأة عاملة أتلقى راتبًا شهريًا، وبعد استشهاد والدي وأشقائي أصبحت أخصص جزءًا منه لوالدتي وأختي الناجيتان من ذلك القصف؛ فأثار الأمر تحفظ زوجي وامتعاضه".
واحتاجت تلك المشكلات التي وصفتها سارة بـ "الصغيرة" مقارنة بتأثير الفقد على صحتها النفسية؛ منها تلّقِى جلسات علاجية فردية، تردف: "طلبت المختصة من زوجي أن أحضر بمفردي؛ لكنه رفض. وبعد مرور وقت شعرت فيه بعدم الاستفادة توقفت عن تلّقي الجلسات".
الطفل محمود فوزي (*)، ذو الاثني عشر عامًا، عايش ظروفًا مُشابهة، يروي كيف تحوّلت جلسات العلاج مع المُعالِجة أروى أحمد إلى محكمة صغيرة: "أبي كان يجلدني إذا قلت إنني خائف". الطفل الذي شهد مقتل صديقه تحت القصف، يحمل الآن تشخيصًا بالانطواء الحادّ، لكن والده يصرّ على أنّ "الرجال لا يبكون".
توضح المعالجة النفسية أروى أحمد، التي تابعت حالة الطفل محمود، أنّه كان يحضر رفقة والده للجلسات؛ لكنّها لاحظت عليه التردد الكبير في التفاعل معها خلال العلاج، فطلبت من والده البقاء خارج غرفة الجلسات؛ لتكتشف أنّ الطفل يعاني تعنيفًا لفظيًا مستمرًا من والده ومعاملة قاسية.
تُعقب والدته التي اعتراها الخجل: "محمود ابننا البكر وهو رجل البيت في غياب أبيه، فيحاول والده معاملته بقسوة أكثر حتى يشتدّ عوده ويستطيع تحمل المسؤوليات، إننا بحاجته لمساعدتنا في شؤون البيت ومهامه كثيرًا".
خبيرة الصحة النفسية، ماجي الشافعي، تُؤكد على أهمية حضور المريض لجلسات العلاج النفسي بمفرده، حيث إنَّ وجود مرافق قد يعيق التعبير الصادق عن المشاعر والأفكار، مما يؤثر سلبًا على فعالية العلاج. "كثيرون ينسحبون من الجلسات لأنَّ المرافقين يتحكمون في سرديتهم"، توضح الشافعي.
وأشارت إلى أنَّ وجود شخص آخر أثناء جلسات العلاج قد يؤدي إلى تقليل الصراحة فالمريض قد يتجنب مناقشة مواضيع حساسة خوفًا من ردود فعل المرافق، وزيادة التوتر لأن الشعور بالمراقبة قد يزيد من مستوى القلق لدى المريض، بالإضافة إلى تأثيره على العلاقة العلاجية، فقد يُعيق وجود طرف ثالث بناء علاقة ثقة بين المريض والمعالج.
أما في قطاع غزة فيصبح العلاج النفسي الفردي أكثر إلحاحًا أمام جملة من القيود الاجتماعية، توضحها المختصة النفسية بقولها إن الواقع في غزة أكثر تعقيدًا فالعائلات تصرّ على حضور الجلسات مع مرضاها؛ خوفًا من وصمة العار المجتمعية، واعتقادًا خاطئًا بأنَّ الدعم العائلي يسرع العلاج.
تُسَجَّلُ قصصُ الألم بأرقامٍ جافةٍ تختزل مأساةً توثقها الدراسات المحلية بأنّ 67% من السكان يُعانون اضطرابات ما بعد الصدمة. فيما يدفع الأطفال الثمنَ الأقسى، وفقًا لتقريرٌ صادر عن منظمة إنقاذ الطفولة، يحمل 80% منهم أثقالًا عاطفيةً دفعت 59% إلى إيذاء أنفسهم، و55% إلى التفكير في الانتحار، كأنما الحربُ تُعيدُ تشكيل طفولتهم إلى كوابيسَ مُعلَّبة.
خلف هذه الأرقام، تُحكى حكاياتٌ أخرى، فجلساتُ العلاج النفسي التي يفترض أن تكون طوق نجاةٍ تتحول إلى ساحةِ معركةٍ جديدة. على الرغم من تأكيد الخبراء أن التزام المريض بالجلسات عاملاً حاسمًا في تجاوز الأزمات والتعافي؛ إلا أنّ نسب التراجع المُبكر تتراوح ما بين 30% إلى 60%، فيما يُعزى ذلك جزئيًا إلى عدم شعور المرضى بالراحة الكافية للتعبير عن أنفسهم بحرية.
وسط هذه الظروف، تشقّ الجهود الفردية طريقها بصعوبة، إذ تُدّرب المؤسسات ذات الصلّة عشرات المتطوعين على الإسعاف النفسي الأولي، كما تنظم جلسات دعم في الخيم باستخدام الفنون؛ لكن النتائج تبقى هشة. سعاد، التي تمكنت أخيرًا من إقناع عائلة زوجها بحضور جلسات منفصلة، تقول: "بدأت أتنفس؛ لكن الخوف من الانتكاسة يلاحقني كظلّ".
في غزة، الواقعُ يصرخُ بتناقضٍ صارخ: حربٌ تخلقُ الضحايا، وحصارٌ يمنعُ إنقاذهم، وثقافةٌ تُحاصرُ الناجينَ بقفصٍ من الصمت، يبقى السؤال معلقًا في الهواء: كم من الوقت يمكن لجسدٍ أن يتحمل حروبًا ثلاثًا؟ حرب القنابل، حرب العادات، وحرب الصمت.
أسماء مستعارة (*)
موضوعات ذات صلّة:
كيف تبني مرونة نفسية في بيئة مليئة بالتحدّيات؟
6 نصائح لدعم أطفال يعانون الفقد والصدمة
كيف يحافظ الآباء على هدوئهم في الحرب؟
كيف تحافظ على الأمل وسط الحرب؟
المرضى النفسيون في غزة يئنون بصمت بفعل الحرب والحصار
العلاج النفسي في غزة