بين الخرق البالية التي تستر أسراً نازحة، ووسط أزقة المخيمات المكتظة في أحياء وشوارع قطاع غزة، حيث يختلط صوت القصف بصرخات الأطفال، تظهر بين الحين والآخر وجوهٌ تحمل صناديقَ غذاءٍ أو أدويةٍ مُتبرع بها. بعضها يصل عبر منظمات دولية، والبعض الآخر عبر مبادرات فردية يقودها ناشطون على "إنستغرام" أو "فيسبوك"، يجمعون المالَ باسم الأسر الجائعة.
لكن بين الصناديق التي تصل وبين الأموال التي تُجمع، ثمة فجوةٌ تُثير أسئلةً ملحة: من يضمن وصول التبرعات إلى من يستحقها؟ وأين تختفي الأموال التي لا تصل؟.
من الطبخ إلى جمع الملايين: تحوُّل غير متوقَّع، فتلك قصة تهاني (*)، امرأة في الأربعينات من عمرها، بدأت صفحتها على "إنستغرام" قبل سنوات لمشاركة محتوى الطهي المستوحى من المطبخ التراثي الفلسطيني. بحلول عام 2024، تحوَّلت صفحتها - التي يتابعها قرابة نصف مليون شخص - إلى منصةٍ لجمع التبرعات بعد أن أصبحت صور القنابل والدمار تطغى على صور الأطباق الشهية. تقول: "لم أتوقع أن تصبح الصفحة وسيلةً لإنقاذ الأرواح."
منذ فبراير 2024، جمعت تهاني مبالغَ كبيرةً عبر روابط إلكترونية، وقالت إنها موَّلت مساعداتٍ غذائيةً وطبيةً للنازحين. لكن تعليقات المتابعين المشبعة بالشكوك بدأت تطفو إلى السطح: لماذا لا تظهر تقارير مالية مفصلة؟ ولماذا تصل بعض الأسر إلى مساعداتٍ بينما يُحرم آخرون؟.
تبرر تهاني ذلك بـ"ارتفاع قيمة عمولات التحويل، وانهيار العملة المحلية البالية، وخطورة التنقل بين المناطق"، لكن حتى هذه التبريرات لم تكن كافيةً لإسكات الشكوك.
غياب الرقابة: أرض خصبة للشبهات
في غزة، حيث الدمار الشامل لكل وسائل الحياة، لا يوجد حيزٌ لمراقبة التبرعات. فالأجسام الحكومية لا تملك آليةً لضبط تدفق الأموال عبر المنصات الرقمية في ظل الملاحقة الأمنية والاستهداف المتكرر. لكن النتيجة هي الفوضى، التي تُغري البعض بتحويل الأموال من "إغاثة النازحين" إلى "تلبية الاحتياجات الشخصية."
باسم (*)، ناشطٌ في مجال الجرافيك ديزاين، تحوَّل فجأةً إلى مُوجِّهٍ لحملات إغاثة بعد نزوحه من شمال غزة إلى الجنوب. بدأ يجمع التبرعات عبر "إنستغرام"، قائلاً إنها ستُستخدم لشراء الطعام والدواء. لكن المتابعين لاحظوا شيئًا غريبًا: بعد أشهر، امتلك سيارة فارهة. وحين وُوجه بالسؤال، برر الأمر بأن "السيارات ضرورية لتوزيع المساعدات وتوفير نفقات النقل". لكن السؤال الذي بقي معلقًا: هل كان شراء المركبات ضروريًا؟ أم أن جزءًا من التبرعات تحوّل إلى مكاسب شخصية؟
بحسب تقديرات غير رسمية، جُمِع ما يقارب 32 مليون دولار عبر منصات مثل "GoFundMe" و"إنستغرام" منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023. جزءٌ من هذه الأموال وصل عبر قنوات رسمية مثل بنك فلسطين، الذي أطلق حملاتٍ لضمان وصول التبرعات بشفافية. لكن الجزء الأكبر ذهب إلى حساباتٍ شخصية لناشطين مثل تهاني وباسم، دون ضوابط تُذكر.
أحمد أبو قمر، محلل اقتصادي فلسطيني، قال: "إن جمع التبرعات ضرورة في ظل انهيار الاقتصاد، لكن الفوضى في إدارتها تُهدد بتحويلها إلى أداة فساد."
وأضاف أبو قمر في سياق حديثه مع مراسلة "آخر قصة"، لابد من أن يتم توزيع المساعدات بطريقة مُنظَمة لضمان وصول الأموال إلى مستحقيها"، مؤكدا أنّ هناك ضرورة للتدخل الحكومي لأجل تنظيم جمع التبرعات عبر الجهات المعنية.
وأوضح أن الضروري وجود جهد رقابي يحارب عمليات النصب والاحتيال، ويحد من وجود الفساد في توزيع المساعدات.
محاولات ضعيفة للتنظيم
من رام الله، أصدرت وزارة التنمية الاجتماعية تعليماتٍ تُلزم المبادرات بالحصول على سندات قبض رسمية. لكن في غزة، حيث المباني الحكومية نفسها لم تسلم من القصف، تبدو هذه التعليمات حبرًا على ورق.
وائل بعلوشة، مدير مكتب "ائتلاف أمان" في غزة، يقول "هناك ضعفاً في الرقابة الرسمية على حملات التبرعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي"، مشيراً إلى أن الوضع في غزة يخلق حالة من الفوضى التي يمكن أن تسهل عمليات النصب والاحتيال.
وأضاف بعلوشة: "في مثل هذه الظروف، يجب أن يتم التنسيق بين الجهات الرسمية والمبادرات المجتمعية لضمان نزاهة الحملات وضمان وصول المساعدات إلى الفئات المستحقة."
حتى البنوك تواجه معضلاتٍ كبيرة. فمع تدمير بعض فروعها وتعطيل أنظمة الاتصالات، أصبحت التحويلات المالية أبطأ وأكثر تعقيدًا. بعض الناشطين، مثل أمجد (*)، الذي يجمع التبرعات لشراء طرود غذائية، يشكو من "ارتفاع عمولات التحويل والعقوبات المالية التي تُعيق وصول الأموال." لكنه يعترف ضمناً بأن جزءًا من التبرعات يُنفق على "أقارب ومعارف" بحجة أن "الكل نازح ومحتاج."
وفي غياب أدوات الدولة الرسمية، يحاول المجتمع المدني سد الثغرات. بعض المبادرات بدأت تتبنى شفافيةً أكبر، مثل نشر فواتير الشراء أو مقاطع فيديو لتوزيع المساعدات. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية.
في الأثناء حذر يحيى محارب، محامٍ مختص بالقانون الدولي، قائلاً: "غياب الرقابة يُعتبر انتهاكًا للحقوق الاقتصادية للناس. التبرعات يجب أن تخضع للمساءلة، وإلا ستتحول إلى أداة لإثراء البعض على حساب الجياع."
يشير المحامي مُحارب إلى أنّ الأموال التي جُمعت تحت مسمى "مساعدة الناس" يجب أن تخضع لرقابة قانونية لضمان تحقيق أكبر فائدة للمجتمع. ويجب أن تتولى الجهات الحكومية أو المؤسسات الحقوقية ذات العلاقة مسؤولية ضمان الشفافية والمساءلة في إدارة هذه الأموال، بما يضمن عدم استغلالها لأغراض شخصية أو غير قانونية.
مجموعة المختصين الذين تحدثنا إليهم، أجمعوا على أن الحلّ ليس في منع التبرعات، بل في تنظيمها. فمنهم من اقترح إنشاء "منصة حكومية موحدة" تُراقب التبرعات وتوجيهها. فيما طالب آخرون بتخصيص "حساب بنكي خاص بالمبادرات" يُحدد الأولويات ويمنع الازدواجية. لكن في ظل استمرار الحرب، يبدو أن الفوضى ستستمر هي الأخرى.
وبين هذا وذاك، تعتبر وزارة التنمية الاجتماعية في رام الله، أنَّ وجود سندات قبض رسمية هو أحد أهم الشروط الأساسية لتنظيم حملات التبرع؛ إلا أنَّ ضعف دور الوزارة وقدرتها في تنفيذ هذه السياسات وبخاصة في ظل الظروف الأمنية المعقدة في قطاع غزة، يعقد من عملية تطبيقها.
وفي ردّ الوزارة على مساءلة مراسلة "آخر قصة"، قالت إنها تكتفِ بما ورد في بيانها، وأن الظروف الأمنية الموجودة في غزة لم تمكنها من العمل بشكل جادّ لضمان الرقابة على عملية جلب وتوزيع التبرعات والمساعدات.
في النهاية، تبقى المعضلة الأخلاقية قائمة: كيف يمكن ضمان الوصول العادل للغذاء والدواء إلى العائلات التي تنام تحت الخيام، دون أن يخضع العمل الخيري إلى كافة أدوات الرقابة الفاعلة.
(*) أسماء مستعارة
موضوعات ذات صلّة:
غياب عدالة توزيع المساعدات يزيد معاناة الفئات الهشة
الأسر الصغيرة أقل حظا في الحصول على المساعدات
بيع المساعدات: تجاوز يصطدم بضعف الرقابة الحكومية
تقرير "أزمة ثقة: التجارة بمعاناة غزة من يراقب أموال التبرعات "
توزيع المساعدات غزة وجمع التبرعات