في أحد أيام الحرب الأشد ضراوةً وكآبةً، وبينما كنت أحاول عبثًا البحث عن علاجٍ لأبي الذي أصيب بجلطة حادة في الدماغ، في محيط حيٍّ مطوق بالآليات العسكرية من أربع اتجاهات، ويسيطر عليه طيرانٌ مسيرٌ، دخلتُ إلى صيدليةٍ كانت أرففها شبه خالية من الأدوية.
التفَّ حول الصيدلي، وهو رجلٌ خمسيني ذو لحيةٍ كثيفة، مجموعةٌ من الزبائن الذين خطف الخوفُ ألوانَ وجوههم وحوّلها إلى شحوبٍ مقفر. كان الصيدلي يتحدّث بحدةٍ ونزقٍ، وكأنّ الحربَ لم تترك فيه سوى القسوة.
وبينما كنتُ أنتظر دوري للسؤال عن الدواء الطارئ، دخلت سيدةٌ ربما في منتصف العقد الثالث من عمرها. ولأنّ الزبائن كلّهم رجالٌ، وكانت هي السيدة الوحيدة، قرّر الصيدلي أن يُعطيها الأولوية كي لا تضطرّ إلى الانتظار وسط هذا الحشد. ناداها بصوتٍ حادّ: "يا أختي، ماذا تريدين؟".
همست السيدة بكلامٍ غير واضح، فما كان منه إلا أن زجرها: "لا تخجلي! ارفعي صوتكِ، هؤلاء جميعهم أخوتكِ!"، في محاولةٍ منه لتشجيعها على الطلب. لكنّ صوتها ارتعش أكثر عندما حاولت النطق: "أحتاج... حبوبَ إجهاض".
ساد صمتٌ ثقيل، ثم انفجر ضحكُ الصيدلي ساخرًا: "وهل هذا وقتٌ للإجهاض؟ الناس تموت!". كأنما الحربُ -بنظره- تفرضُ على النساء تعويضَ الموتى بالمزيد من الولادات! ثم زاد أسئلته ثقلاً على صدرها: "أين زوجكِ؟ لماذا لم يأتِ هو؟".
احمرّت عينا السيدة، وانحنى رأسها، لكنّها أصرّت بصوتٍ يكاد يذوب في الهواء: "زوجي مات منذ شهر في القصف، وأنا لا أستطيع..". لم تكمل كلامها. أحد الرجال في الصفّ همسَ لآخر: "أرأيت؟ النساء لا يعرفنَ ما يردنَ، حتى في الموت يرفضنَ أن يُنجبنَ، بدلاً من أن يصنعن المستحيل كي يعوضن خسائرنا في الشباب".
أحسستُ بغصةٍ في حلقي. نظرتُ إلى السيدة، التي بدا أنها تختزل كلّ آلام العالم في عينيها. كانت تريد أن تقول شيئًا، لكنّ الأعرافَ المجتمعيةَ ثقيلةٌ كالدبابات التي تطوق الحي. ففي مجتمعنا، القرارُ دوماً بيد الرجل، حتى لو كان غائبًا، حتى لو كانت الحربُ تطحنُ أحلامَ النساءِ وأجسادهنّ.
خرجت السيدة من الصيدلية بلا دواء، تلاحقها نظرات اشمئزاز، رغم أنه لا أحد يعلم مبررها فلربما لديها رخصة شرعية أو علة صحية. لكن المجتمع في لحظة ما حين قررت أن تطالب بحقها في عدم الإنجاب، اقحم نفسه في القرار!.
كنت محاطًا بالكثير من العجز مثلها، فأنا أيضًا خرجت خال الوفاض وسط انعدام كامل للخدمات الصحية، وبخاصة في شمال قطاع غزة الذي خرجت جميع مستشفياته تقريبًا عن الخدمة. كنت أفكر في مستقبل أبي الذي يصارع الموت في ظل الحرمان من العناية الطبية الفائقة، حبيسًا بين أربعة جدران على سرير متهالك في رحلة نزوح قاسية، تنقل خلالها ثلاث مراتٍ. مات أبي -رحمه الله- بعد ساعات، لكنني آثرت ألا تموت هذه القصص.
واقعٌ قاسٍ بلا شك، وشعورٌ مقيت. تخيل أنك تحت القصف، جائعٌ، عطشانٌ، لكنك مُلزَمٌ بقبول حملٍ غير مرغوبٍ فيه، لأن المجتمعَ يرى في رحمكِ "مساحةً" لتعويض الخسائر البشرية!
كنت أعي دائمًا أن العادات والتقاليد بالنسبة لمجتمع غزة هي "قاضي القضاة"، وأنه ينظر في كثير من الأحيان إلى المرأة نظرة دونية، لكنه لم يخطر لي مطلقًا أن أرى المرأة تُحاكم علنًا حتى في ذروة الحرب، لا لشيء إلا لأنها فكرت في اتخاذ قرار يخصها منفردةً، وأن هناك فاعلين آخرين يجب أن يتدخلوا في اتخاذه: السلطوية الذكورية، والفقر، والأسرة الممتدة، والمجتمع بأكمله!
قرابة عام ونصف والنساء في قطاع غزة يدفعن ثمنًا باهظًا، ليس فقط بسبب فقدان أرواحهن، بل أيضًا نتيجة منظومة اجتماعية محافظة تعمّق معاناتهن وتضعهن في مواجهة مزدوجة: بين عنف الاحتلال، وعنف التقاليد الذكورية التي تحدّ من خياراتهن وحرياتهن الأساسية، حتى فيما يتعلق بأجسادهن وحقوقهن الإنجابية.
لعلنا لا نضيف جديدا حين نقول إن النساء يشكلن السواد الأعظم من المجتمع، حيث تشير الإحصاءات إلى أنهن يشكلن حوالي 49.3% من إجمالي سكان غزة، أي نحو 1.10 مليون أنثى قبل الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023. وهذا مؤشر واضح على كفة المرأة الراجحة في الميزان الديمغرافي، ومع هذا ليس لديها الحق في قول "لا" لمسألة تخصها، تتعارض ربما مع صحتها أو ظرفها أو أفكارها!
لم يدرك المجتمع للحظة واحدة أنه عندما تسقط الصواريخ وتنهار المباني، لا تسأل الحرب عن جنس الضحايا. وأن النساء يدفعن الثمن الأكبر، لأنهن لا يخسرن فقط الأمان الشخصي والمأوى، بل يتحملن مسؤولية إعالة أسر بأكملها في غياب الأزواج والإخوة الذين قتلوا أو اعتقلوا أو فقدوا سبل العيش.
وفي طبقاتٍ أعمق من الأزمة، تجد أن النساء شكَّلن الكم الأكبر من ضحايا هذه الحرب: (84,440) ضحيةً، 70% منهم نساءٌ وأطفالٌ. عدا عن نزوح 1.9 مليون شخص، 85% من إجمالي سكان القطاع، بينهم نحو مليون امرأة وفتاة. لكن الأرقامَ لا تُخبركم كيف تُحول الحربُ أجسادَ الناجيات إلى ساحاتٍ لمعاركَ جديدة.
المتأمل في هموم النساء يجد أن المسألة تتجاوز في أحيان كثيرة فكرة منعها من اتخاذ قرار الاجهاض، بإلقاء العبء الأكبر عليها في توفير الاحتياجات الأساسية للأطفال كتحدٍ يومي، لاسيما مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وتخيّيم شبح الجوع والفقر وانتشار الأمراض والأوبئة وسط خيام بالية تفتقد إلى أدنى المقومات الأدمية.
الأدوار النمطية تلازمها حتى في الحرب، فهي مُطالَبة بالبحث عن الطعام حتى في ذروة المجاعة. فيصبح من البديهيات أن تستفيق باكرًا -لو افترضنا فعلاً أن بإمكانها النوم وسط القصف- لترشد أطفالها إلى أماكن توزيع الطعام (التكية)، أو أن تحمل قدرًا فارغًا وتشق طريقها بين الخيام بحثًا عن مراكز توزيع الطعام المجاني كي تحصل على وجبة تُخمد بها قرقرة أمعاء صغارها.
عدا عن مهمة إشعال مواقد الحطب وطهي الطعام وتسخين الماء وغسل الملابس يدويًا، وغيرها من هموم يومية، لتجد نفسها مع نهاية يوم طويل شاق لا تقوى على قول "لا" لغريزة ذكورية تطالبها بالإنجاب!.
في لحظة ما، تجد المرأة نفسها محاطة بأسوار من كل اتجاه وسط ظروف قاهرة، وبالتالي من الطبيعي أن يتحول الحمل والولادة كابوسًا إضافيًا تعانيه النساء في غزة.
وفي قلب هذه الدوامة، تُجبر الحاملُ على خوض معركةٍ وحيدة: جوعٌ ينهشها، وجنينٌ ينهش صحتها. لذلك فإن الكثير من النساء في غزة، وفقًا لعدد من التقارير الأممية، يعانين سوء التغذية وظروفًا صحية قاهرة خلال فترات الحمل نتيجة المجاعة التي مرَّ بها القطاع ولا يزال.
ثم بعد ذلك كله يُحرَمن من الحق في اتخاذ قرار الإجهاض حتى في أصعب الحالات، بسبب القيود الاجتماعية والقانونية والدينية.
والحقيقة التي لا بد أن نقر بها هي أننا نعيش في مجتمع محافظ يمنع حتى النقاش في موضوع الإجهاض، ويعامله كـ"تابو" غير قابل للطرح، حتى عندما يكون الحمل ناتجًا عن العنف الجنسي أو عندما يشكل خطرًا على حياة المرأة.
لهذا تطرح النساء دومًا سؤالًا: "لمن أُنجب؟ للحرب؟ للجوع؟ للخيام؟". فمن غير المعقول أن تجد نفسها مضطرة إلى إنجاب أطفال في بيئة تُعدم فيها مقومات الحياة الكريمة والإنسانية.
تخيل أن سيدة لا تستطيع أن تقنع زوجها بضرورة استخدام أدوات منع الحمل حتى تخمد أبواق الحرب على الأقل، لتجد نفسها بعد أيام تحمل جنينًا في أحشائها وسط رحلات النزوح القسري والانتقال من خيمة إلى أخرى، عدا عن عناء وإذلال المرضعات اللواتي ينخرطن في طوابير المعونة لساعات طوال، ويبحثن عبر شبابيك المنظمات الإغاثية عن علب الحليب الصناعي والضروريات الصحية والكثير من الاحتياجات الماسة!
المتأمل أكثر في هموم النساء يجدها سلسلة ممتدة لا نهاية لها. والأقسى مما تقدم أن هناك عنفًا آخر يُمارس ضدهن، وخصوصًا أولئك اللواتي فقدن أزواجهن خلال الحرب، حيث أصبحن عرضة للوصم الاجتماعي. ناهيك عن تزايد حالات الزواج القسري نتيجة الضغط الاقتصادي، حيث تضطر بعض العائلات إلى تزويج الفتيات في سن مبكرة لتخفيف العبء المادي.
وتلك حكاية أخرى، أن تجد الفتاة نفسها في سن الرابعة عشرة مثلاً، عبئًا على أسرتها، فتضطر إلى تزويجها بذريعة أنه لا يتوفر لديهم مقومات حياة من مأكل ومشرب وملبس، ولضمان "سترها". "السترة" بالمفهوم المحلي هي تزويج الفتاة ربما لأول من يتقدم لخطبتها بصرف النظر عن مؤهلاته الشخصية وظروفه الحياتية، وهو مصطلح يعكس فظاعة النظرة الفكرية أحيانًا في التعامل مع مستقبل الفتيات القاصرات، والذي يتجاوز قواعد التشريعات الناظمة للأحوال الشخصية بشأن تحديد سن الزواج، تحت ستار الحرب.
من هنا يمكن أن نفسر كيف أن 51% من النساء المتزوجات في قطاع غزة تعرض لأحد أشكال العنف من قبل أزواجهن وفقاً للإحصاءات، فمن الواضح وطبقاً لمفهوم "السترة" أن قواعد اختيار الشريك تصبح أغلفة كتب منمقة لا قيمة لها في ذروة الحرب.
وتشكل حكاية الفتاة اليتيمة أمل (18عامًا)، مثالاً حياً على أن قرار اختيار الشريك أيضاً لا تملكه في ظل غياب الأب. فبعد رحلة نزوح رفقة أمها وأشقائها، ولجوئهم إلى مدرسة إيواء داخل مدينة غزة، أرادت الأم تزويجها هي وشقيقتها التي تصغرها بسنةٍ واحدة، بدعوى أنها تريد الاطمئنان على مستقبلهما.
التقيت أمل -وكانت حاملاً وقتها في الشهر الخامس- بمحض الصدفة في ساحة مركز النزوح، بينما كانت تنتظر دورها في الحصول على طبق أرز. أخبرتني أن أسرتها المكونة من خمسة أفراد كانت تعاني انعدامًا كاملاً في مصادر الدخل، وأنها كانت تقتات على المساعدات، وأن السبب الخفي وراء دفعها للزواج هو تحدي الفقر.
أمل ذات العينين الخضراوين قالت إنها كانت تحلم بأن تواصل تعليمها الجامعي والالتحاق بكلية التمريض، ثم ترتبط بشخص يؤسس لها حياةً لائقة وتزف إليه بفستان وفرح أمام الملأ، لكن كل ذلك صار خلفها الآن، بعدما انتقلت بلباس النزوح من فصل داخل المدرسة حيث تقيم أسرتها، إلى فصل مجاور حيث تقيم أسرة العريس.
زوجها الذي يكبرها بعامين لم يكمل تعليمه الثانوي، ويعمل بائع خضروات على عربة، بالكاد تغطي عائداتها نفقات أسرته، حيث يرعى الأم والأب واثنين من الأشقاء. وأشارت إلى أن قرار الإنجاب كان بدافع من الحماة لأجل المباهاة بالتكاثر أولاً، ولزيادة حجم المساعدات التي يمكن أن تحصل عليها الأسرة ثانيًا.
بتلك القصة يمكننا أن نفهم أن الأعراف المجتمعية تضع أولوية لدور المرأة في الأسرة كأم وزوجة فقط، وأحيانًا مصدر دخل! لكن لا أحد يلتفت إلى حقوقها واحتياجاتها كإنسانة، بل ولمعاناتها النفسية القاهرة.
وبالتالي، ومع استمرار الحرب والحصار، تبقى النساء في غزة محاصرات بين نيران الاحتلال وجدران المجتمع الذكوري، حيث تتحول أبسط حقوقهن إلى معركة يومية من أجل البقاء. وحتى عندما تنتهي الحرب، لا أعتقد أن معركة النساء ضدَّ تابوهات المجتمع ستتوقف.
قرار الإنجاب في غزة لمن؟