الكذبة هي الحل!

الكذبة هي الحل!

في شارع النصر غرب مدينة غزة، وبالقرب من العيادة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" ما يُعرَف بعيادة (السويدي) وهي الصفة التي تكتسبها المباني والشوارع وفق سياسة وأهواء التمويل والممول. وكأنَّ في غزة بصمات لكثير يعيدون ترميم وإنشاء مبان لظروف صراع وقتل مستمرة.  وبينما أسير وأمرن ذاكرتي على إنكار شكل الرماد ظهر من أمام أحد المحالّ شالاً باللون الأبيض تتداخل معه بعض تفاصيل مطرزة وزركشات باللونين الوردي والأخضر. 

يُشبه تفاصيل فستان لي لم أحظَ بأن أرتديه سوى لحظة "البروفة" الخاصّة بالمحل وفي المرة الثانية صارت الحرب أمراً واقعاً والفستان صار أشلاء تحت ركام البيت لم يُنتَشل منه شيء حتى اللحظة. وقفت أمام الشال أخاله فستاني الذي يلوح لي من تحت البيت فأخطفه من بوابة المحل، لكن وداعة صاحب المحل جعلتني أدخل وأشتريه، كذباً ظننته فستاناً، كذباً صار الشال فستاني المنتشل اشتريته والتقطت صوراً له وأرسلت لأخواتي الصور أسأل: 

- بم يذكركم تفاصيله؟

- فستانك!

صار الشال فستاناً بالكذب!

كل شيء يصير وفق حيلة الكذبة أو الصفة الطارئة على الحديث اليومي الغزي (الكذابة) هي الصفة التي تساعد الغزي أن يسرق لحظة من زمن سابق مضطر إليها كأداة نجاة خاصة بقواميس السلوك الغزي.

وبينما يعرض علي البائع بعض التفاصيل الزاخرة بألوانها في المحل، لم يلفتني شيء سوى هذا الشال، فكل الألوان كاذبة لأن رماداً وغباراً وركاماً بالخارج يطفو على كل التفاصيل.

بجانبي سيدتين يتشاركن انتقاء بعض الأشياء من المحل ذاته ويُجربن بعض الروائح من العطور المتنوعة في المحل تقول إحداهن وسط الحديث عن فرصة إعداد (القطائف الكذابة) بديل للقطائف الذي ارتفعت أسعاره باعتباره وجبة الحلى الخاصة برمضان. فما زالت الصفة تُلاحق مسامعنا وكأنّها شيئاً عادياً ومعتاداً أردفت الثانية: يعني "زلابية!".

ابتسمت لهما ومضيت وفي بالي رائحة "الزلابيا" وهي بعض الأرغفة المقلية بالزيت ويُرش عليها قليلاً من السكر والقرفة. وحادثتها المرتبطة بحكايةٍ من الموروثات الشعبية بأنّ سيدة اضطرت لأن تصنع الكثير من (الزلابيا) وتمطر سقف البيت وساحة البيت؛ لتقنع زوجها بأن السماء تمطر زلابيا كي تحتال في أمرٍ يقضي بالحكم على زوجها بأنه مجنون.

يبدو أن النساء بارعات في اختيار الحيل التي تفسد على الواقع توحشه وتوغله منذ الحكاية الأولى. 

في السوق الذي بدا أحد أهم الوحوش الناهشة ليوم الغزي في ظلّ شُح البضائع وخلو المحلات بما ينقذ جوع الصائم ولهفته المُشتهاة لكل الأصناف، تسير الأقدام حائرة في ظلّ فوضى الأسعار، والسؤال: بكم؟

والإجابة: أقدام تفرّ من هول السعر.

السؤال: في؟ (هل يوجد؟)

الإجابة: فش! (لا يوجد)

والأقدام تعود لضياعها ويعود السؤال يضرب كفيه على صدر السائر الحائر

_ شو نعمل طيب؟!

وكأنّها رحلة البحث عن خيارات معدومة في سوق واسع وكبير ومركزي تخلو البضائع من مظاهرها الملونة والرغبات بالتهام مهرجان الألوان والروائح والطعم، إذ كانت الأسواق الغزية في رمضان -رغم سوء الوضع الاقتصادي- لكنّها زاخرة بما يشتهي صائماً ومحتاجاً، لكنها اليوم خالية من صخب سوق الزاوية، ومن تنافس الأسعار بين أسواق الشيخ رضوان، والشاطئ، ومزار شراء الأسماك في حسبة السمك. وكأنّ الصورة الحالية هي تشبه قصة تلك السيدة التي تأتي من ذاكرة دروس المدرسة التي مرّ بها عمر بن الخطاب فوجدها تُسكِن جوع أبنائها بماء يغلي في القدر وبعض الحجارة، وتحاول أن تقنعهم بأن الأكل ما زال في مرحلة الاستواء، فيغلبهم الجوع والنُعاس فيستسلمون لنومهم الجائع، وحلمهم بأن الأكل سيكون جاهزاً بعد أن يستيقظوا.

تلك القصة التي كانت تمثل عنصر الخيال الأساسي لي منذ الطفولة وهي حاجة واضطرار المُعيل على اختراع أساليب كذب تتنافى مع قيم التربية التي يُؤسِسها المُعيل والمربي في نفس المعيلين، فيظهر المعيل ككاذب لكننا ننكر كذبته تلك، ونرى فيها حيلة مقبولة على صدق الوجع في واقع بائس جداً. 

تصير هذه الحيلة غزية في ظلّ الضغط الذي يمارسه الاحتلال منذ انتهاء المرحلة الأولى عبر تشديد الحصار ومنع إدخال البضائع والتحكم بنوعية البضائع وإغلاق المعابر وقطع المساعدات؛ مما يعيد تجارب الغزيين نحو حالة المجاعة والجوع شبحاً جديداً وآخراً بعد تكراره. الجوع وهو السلاح القاتل البطيء الذي يوجهه الاحتلال نحو الواقع الغزي بالتحكم بالاحتياجات الأساسية على مدار سنوات الحصار على القطاع وصولاً إلى بعض الدعوات الإسرائيلية بأن يتحكم الاحتلال بعدد السعرات الحرارية التي يجب أن يستهلكها الجسم الغزي.

وهي تعميق لأداة الجوع المُوحشة وتكرارها على مدار الحرب وما سبقها لتؤثر بشكلٍ أساسي على تكوين وحاجة الفرد الغزي الأساسية وفق بعض الدراسات التي تقول: إن المعاناة من الجوع الحادّ تؤدي إلى انخفاض مستوى الذكاء الاجتماعي والعاطفي، وهذا يؤدي إلى أن تصبح الميول السلوكية والحالات النفسية النموذجية للجوع الحادّ راسخة في النمو إلى الحدّ الذي يتم فيه التعبير عنها على الأقل إلى حدٍ ما حتى عندما لا يكون الشخص جائعاً. تلك الظاهرة التي يساهم الاحتلال في مأسستها في تكوين المجتمع الغزي عبر قتل مستوى السلوك السوي لدى الغزي بتكرار خلق حالة التجويع. 

ليواجه التكوين المجتمعي فيما بعد حالة من فرط النشاط والعدوانية والقلق وقد تتغير الحالة المزاجية خاصة عند الأطفال والفئات الأشد هشاشة، فالجوع وفق بعض الدراسات يخلق حالة من المشاعر المرعبة على النفس بنسبة 37% قلق، وغضب بنسبة 34% بالإضافة إلى تثبيط الشعور بالسعادة بنسبة 38%. 

بالإضافة إلى تأثير الجوع وتكراره على خلق حالة من التشتيت في انتباه الأطفال وتأخير نمو وصعوبات التعلم، إذ يحتاج 5 من أصل 10 أطفال إلى إعادة الصف الدراسي.

فبالتالي تجعلنا سياسة التجويع التي يتبعها الاحتلال منذ فرض الحصار على القطاع واشتدّت في ظلّ الحرب الأخيرة أمام حالة من تغير الموقف الاجتماعي وتقليل معيار الحكم الأخلاقي وتحفيز السلوك العدواني. تصبح النفس أسيرة حاجة لقمتها وتحاول اختراع حِيلاً تُنافي إحساس الأنا بالقيمة العليا كصدق ضدّ الكذب والذي صار الكذب صفة أخرى مستحدثة تدخل في تفاصيل وموائد رمضان الثاني على التوالي.

هذا رمضان ثان تتكرر فيه سياسة التجويع هذه، ويحرم فيه الغزي من ممارسة صخب الألوان في الأسواق وحصر ذاكرة الحواس بالحرمان من اختبار الألوان والطعم وحتى الرائحة.

لم يعد وقت العصر الذي يسبق الإفطار في رمضان وقتاً متتبعاً لبعض الروائح الشهية لقد فقدتها الذاكرة. رائحة البصل، رائحة القرفة في الشوربة، صوت صخب البيوت وانشغالها بتفاصيل تجهيز السفر والعزائم، لقد صار البديل كاذباً وكأنَّ الجميع يُقرقِع صوت الأواني ليظن السامع بأنّ الأكل يغلي في القدر.

إنه رمضان الثاني الذي جاء الأول منه في رفح خلال فترة نزوحي الذي ظهر فيه السؤال جليّاً بعد أن سيطرت حالة التجويع المفروضة في الحرب والتي ما زالت لليوم:

_ايش نعمل؟!

_ ايش بدنا نسوي أكل؟!

أقدام تائهة في سوق رفح المركزي يضطر المشترون فيها إلى اقتناء بعض ما يصنع المقلوبة الكذابة، وهي وصفات متناقلة بين السيدات في ساحة بيت النزوح.

وكأنّها حيلة باتت عادة يدفع بها المعيل عن رأس المعيلين وهم الطعم السابق للأشياء. وكأنّ البديل صار واقعاً لا مؤقتاً.

الآن في سوق الشاطئ غرب مدينة غزة يدور السؤال مرة أخرى بعد إغلاق المعابر ما يزيد عن أسبوعين ووحش الأسعار في ظلّ انعدام للأمان الاقتصادي الذي بات يعتمد بشكلٍ أساسي على التبرعات والمساعدات 

_ ايش نعمل؟

_ ايش بدنا نطبخ طيب؟!

أقدام تائهة مرّة أخرى وهمهمات نساء تشير فيما بينها بالمجالس عنوانها:

(وصفات الحرب) الكذابة.

يبدو فيها حبل الكذب الغزي ما زال طويلاً يلف نفسه حول حاجات الغزي أمام مِقصلة أشكال الموت المتعددة في غزة!

فكأنّ الكذب هو الحل!

 

موضوعات ذات صلّة:

الخيال الذي صنع تفاح وشارع

الأمومة في الحرب: عن تحديات رعاية الأطفال

غزة: النساء الفقيرات ومسؤولية تحضير مائدة رمضان 

روزانا غزة: حلم النجاة تحت وطأة الجوع

إنذار بحتمية وقوع المجاعة: هل من مستجيب؟