الذكاء الاصطناعي يُشرع الباب أمام الغش التعلمي

مع غياب الرقابة لدواعي الأولويات

الذكاء الاصطناعي يُشرع الباب أمام الغش التعلمي

لم تعط الشابة ميساء خليل (23 عامًا) نفسها فرصة للإجابة على اختباراتها الجامعية اعتمادا على مراجعتها أو دراستها، واكتفت بتقديم الإجابات عبر أدوات الذكاء الاصطناعي.

وعلى وجه السرعة، أتمت الشابة الجامعية تسجيل الإجابات متنقلة من نافذة الاختبار الإلكتروني إلى نافذة "Chat GPT"، قبل أن يدركها الوقت المحدد.

ميساء، هي طالبة فلسطينية في السنة الرابعة بكلية الهندسة المعمارية، تعاني قلّة التركيز والتشتت منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. هذا التشتت قادها في التفكير بتأجيل الفصل الدراسي، لكنها تراجعت علّ الدراسة تكون متنفسًا لها في ظلّ الخوف الدائم الذي يلاحقها. 

ميساء التي كانت تعرف باجتهادها ومثابرتها، قالت إنها تبعت خطى زملائها الذين يعتمدون على مواقع الذكاء الاصطناعي في حلّ الاختبارات، وقالت عن تجربتها: "رأيت زملائي يعتمدون مواقع وتطبيقات AI في الإجابات فنحوت نحوهم لأجل التخفيف من عبء الدراسة عن كاهلي، خاصّة مع تراكم أعباء الحياة اليومية التي أعيشها في الخيام، والمعاناة النفسية التي أعانيها نتيجة الحرب".

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، توقفت العملية التعليمية في غزة بالكامل. وتعد واحدة من تداعيات الحرب الأبرز، هو تدمير العديد من المعاهد والجامعات، فيما ارتقى المئات من الأكاديميين، إلى جانب الآلاف من الطلبة.

أمام هذا الواقع، لجأت الجامعات المحلية إلى اعتماد التعليم عن بُعد عبر المنصات الإلكترونية المعروفة، في محاولة لإنقاذ العام الدراسي في ظل انعدام أفق العودة إلى التعليم الوجاهي في الوقت الراهن.

في ضوء ذلك، تحوّلت مواقع الذكاء الاصطناعي إلى "فانوسٍ سحري" للطلبة، تساعدهم في اجتياز الامتحانات وإنجاز الأبحاث؛ لكنّ هذا الحلّ السريع يحمل في طياته أزمة أخلاقية تُهدد المنظومة التعليمية برمتها بوصفه غشاً، وبخاصة مع اعتماد الطلبة المتزايد على تلك المنصات، مما ينذر بإنتاج جيل قد يحمل الشهادات العلمية، ولكن دون كفاءة.

وأمام جملة الإجابات المكررة بين الطلبة حاول أحد المحاضرين الجامعيين ابتكار أساليب جديدة للتقنين من عمليات الغش التي يقوم بها الطلبة اعتمادا على (AI)، كجهد شخصي؛ ولكنه جهد يرتقي أن يتحول إلى وسيلة يمكن أن تتبناها الجامعات المحلية.

وأمام اكتشاف الأكاديمي كرم الرضيع، وهو محاضر جامعي في كلية هندسة الحاسوب، تكرار الإجابات بين الطلبة ومن خلال عملية بحث وتقصي لمعرفة السبب، تبين أن الطلبة يستخدمون Chat GPT للإجابة على المهام التي يكلفون بها. وعليه قال: "حاولت معرفة الأسباب التي تدفعهم للاعتماد بشكلٍ كلي على الذكاء الاصطناعي، وكان واحدًا منها كثرة الأسئلة، فقررت اتباع آلية في تحضير الأسئلة، بتقليل العدد إلى سؤالين فقط، مع مطالبتهم بشرح طريقة الحلّ".

وأوضح المحاضر الرضيع أنّه يضع سؤالين من ابتكاره، ثم يقارن إجابات الطلبة بحلول "الذكاء الاصطناعي"، ويحسب النسبة المئوية للتشابه، وفي أحيانٍ أخرى بمجرد قراءته للأجوبة يعرف على الفور أنّها لسيت بشرية.

يُقرّ الرضيع بأنّ المنظومة التعليمية برمتها، تتحمل جزءًا من المسؤولية بسبب كثافة وصعوبة أسئلة الاختبارات؛ ما يدفع الطلبة للبحث عن حلول سريعة؛ لذلك ألقى عليهم جزءًا من اللوم، فيما هو حاول بدوره التواصل إدارة الجامعة لوضع آلية معينة للحدّ من الغش لكن دون جدوى، حسبما قال. 

وتعد أداة "Chat GPT" آداة عالمية، لكنها تواجه الحظر داخل المدارس والجامعات في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا. ووفقًا لتقرير صحيفة "ديلي ميل"، فإنَّ نصف طلبة الجامعات يستخدمونه للغش، فيما كشف استطلاع "ستدي دوت كوم" أن 26% من المعلمين اكتشفوا حالات غش عبر الذكاء الاصطناعي؛ مما دفع العديد من المؤسسات لفرض قيودٍ صارمة تصل إلى حدّ الطرد.

خليل إسماعيل (20 عامًا)، طالب في كلية الطب البشري، أقر بلجوئه إلى "Chat GPT" للبحث عن مصادر لمعلومات طبية. وعن ذلك قال: "في الحرب فلم يكن لدي وقت للدراسة أبدًا ولا مزاج يسمح بالتفكير العميق والبحث، خصوصّا في ظلّ ضياع الوقت بين طوابير الخبز وتعبئة جالونات المياه وجمع الحطب وغيرها من التحدّيات، ناهيك عن الضغط النفسي الذي تعرضت له".

يستخدم خليل وكافة زملائه حسبما قال، أدوات الذكاء الاصطناعي في الدراسة؛ غير أنّهم لم يحققوا نتائج مرضية في بداية التعامل معه بسبب عدم دقة الإجابات، لكنهم ومع مرور الوقت قد أدركوا آلية عمل الأداة، فتمكنوا من استخدامها بشكل أكثر فاعلية، بما يتجاوز الاعتماد عليها لحل الاختبارات فقط.

هذا يعني أن الطلبة بدلاً من الكف عن التعامل مع Chat GPT في الامتحانات بعد تدني درجاتهم، قد طوروا من موهبة استخدامه وأجادوا توجيهه نحو الإجابة الأكثر دقة.

 لكن في المقابل، أشار الطالب "خليل" إلى أنه وزملائه تعرضوا لما أسمّاه "فخ المعلم"، واكتشفوا ذلك بعدما نالوا علامات أقلّ من المتوقع، وعند سؤال المحاضر عن دواعي ذلك؟ اتضح أنّه تلاعب بمحتوى الأسئلة على الذكاء الاصطناعي ليضع الطلبة في مأزق ويتعرف على الطلبة الذين يعتمدون عليه بشكل كلي.

على ضوء ذلك، علق الباحث التربوي أشرف كحيل على الحالة التعليمية بالقول، إن ما يحدث هو كارثة تعليمية وانهيار لمنظومة التعليم بأكملها، إذ يخلق جيلًا متعلم لكنه غير مثقف وخامل، سيكون جيلا مستهلكًا وفاقدًا للقدرة على التفكير والإبداع، حسبما قال.

وباعتبار الاختبارات والتكاليف الدراسية هي عبارة عن أدوات للتقييم يستخدمها المعلمون في تقييم كفاءة الطلبة، فإنّ فقدانها لفعاليتها كما في حالة استخدام طلبة لتقنيات مثل "Chat GPT" لحلّ إجابات الاختبارات دون وجود حلول رسمية من وزارة التعليم، فإن ذلك يؤدي إلى فقدان المصداقية في نتائج التقييمات، حسبما يرى المختص التربوي.

وأوضح أنه يُصبح من الصعب تحديد مستوى الفهم الحقيقي للطلبة؛ مما يُسهم في تضليل التقييمات التي لا تعكس الأداء الفعلي للطلبة، وهو ما يؤدي إلى إهدار الفرص لتطوير مهاراتهم الحقيقية. علاوة على ذلك، قد تتسبب هذه الظاهرة في إرباك النظام التعليمي بشكلٍ عام، إذ يفتقر إلى أدوات فعالة لمواكبة التغيرات في تقنيات التعلم الحديثة.

ودعا كحيل ذوي الاختصاص بضرورة ابتكار آلية لإيقاف ما يحدث من اعتمادٍ كبير على الذكاء الاصطناعي من قبل الطلبة سواء في اختباراتهم أو أبحاثهم، "وليعلموا الأجيال القادمة أهمية شغف الوصول إلى المعلومة وما عدا ذلك هو عبث".

صحيح أن المُشرِّع الفلسطيني لم يواكب بشكلٍ كامل التطور الكبير في وسائل التكنولوجيا الحديثة، إلا أن هناك نصوصًا يمكن من خلالها استنباط منع استخدام الذكاء الاصطناعي في الامتحانات بشكل مباشر.

ويتضمن قانون العقوبات الفلسطيني رقم 94 نصوصًا صريحة تجرّم تزوير المستندات الرسمية أو إمكانية التلاعب بها، وبالتالي يمكن تطبيق عقوبات على أي مستند تعليمي تم استخدام وسائل التكنولوجيا في إنتاجه، وهو أمر يظلّ قيد تقدير النيابة العامة.

يقول المحامي في القانون الدولي يحيى محارب، أنّه وفي هذه الحالة، يُعتبر استخدام الذكاء الاصطناعي في الامتحانات غشًا وتزويرًا واضحًا، مما يُؤثر على مدى استحقاق الشهادات العلمية.

ويشير المحامي يحيى محارب إلى أن القوانين الفلسطينية، رغم عدم نصها المباشر على الذكاء الاصطناعي، إلا أنها تُجرّم التزوير؛ ما يعني إمكانية تطبيق العقوبات على مَنْ يغش بهذه الطريقة.

وتوقع أن تشهد الفترة القادمة، مع استمرار التطور والاستخدام الواسع لوسائل الذكاء الاصطناعي، تعديلات محتملة على قانون الجرائم الإلكترونية رقم 10، تهدف إلى وضع قيود وضوابط بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي للحصول على المعلومات.

للوقوف على المستوى الرقابي الرسمي حيال الاغراق في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي من قبل الطلبة، حاولت مراسلة "آخر قصة"، مناقشة الأمر مع وكيل وزارة التربية والتعليم بصري صالح، بحثًا عن الحلول المطروحة لمعالجة المشكلة؛ لكنه رفض التعاون بدافع وجود أولويات أكثر إلحاحًا في ظلّ تعقيدات الحرب.

وبينما يظلّ التعليم في غزة عالقًا بين نيران الحرب وضغوط الحياة اليومية، يبقى السؤال: هل ستتحرك الجهات المختصة لوضع ضوابط تحدّ من انهيار المنظومة التعليمية؟ أم أن الجيل القادم سيُترك لمواجهة مصيره، مسلحًا بشهادات بلا علم، وعقول فقدت شغف التعلم؟

 

موضوعات ذات صلّة:

كوميكس: التعليم الضائع

فرص انعاشه هشة: مستقبل التعليم في غزة مجهولاً

الأمل المنهوب: عن تأثير الحرب على التعليم بغزة

الفقر والانترنت يعيقان التعليم عن بعد في غزة

بعد انهيار التعليم: إليكم طرق مواجهة التجهيل

أطفال غزة يواصلون تعليمهم رغم الحرب