مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر

مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر

على مدار خمسة أعوام، ظلّت السيدة منصورة طباسي، وهي أم لأربعة أبناء من غزة، تُصارع مرض السرطان بجسدها الهزيل، في ظل غياب العلاج اللازم، وصعوبة الحصول على تحويلة طبية للسفر لتلقي العلاج خارج القطاع، مما جعلها تكافح المرض بلا أمل يُذكر.

ورغم ذلك، استمرت محاولات السيدة طباسي، بالحصول على إذن للسفر، فحصلت على التحويل الطبية للعلاج في مصر خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة (2023- 2025)؛ غير أنَّ استمرار انتظارها جعلها تواجه خطر الموت.

يقول ابنها: "أمي كانت في مراحل التعافي النهائية، وكان العلاج في الخارج هو الأمل الوحيد؛ لكن منذ فبراير 2024، توجهنا إلى معبر رفح البري أكثر من تسع مرات للسفر دون فائدة، رغم سريان التحويلة"، فيما كان المعبر نفسه تحت القصف في كثيرٍ من الأوقات، مما جعل الأمور أكثر صعوبة.

في خضم الحرب، كان القصف الإسرائيلي يُفاقم معاناة منصورة وأسرتها، إذ عاشت العائلة في خوفٍ دائم، فالسفر إلى المعبر لم يكن مجرد رحلة علاجية، بل كان مواجهة مباشرة مع الخطر. 

وعلى الرغم من الانتظار الطويل، لم تستطع منصورة الحصول على فرصة للعلاج خارج القطاع، لتفاجأ في النهاية بتدهور حالتها. وفي 28 فبراير 2024، أعلنت العائلة عن وفاة منصورة، بعدما انتشر السرطان مجددًا في جسدها بسبب انعدام الخدمات الصحية داخل القطاع.

وفقًا لمركز الميزان لحقوق الإنسان، تشهد غزة تزايدًا في معدّلات الإصابة بالسرطان. في عام 2018، سُجلت 90 حالة لكل 100,000 شخص، ولكن الرقم ارتفع ليصل إلى 93.1 حالة في عام 2022. ومع ذلك، فإنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة قد أضافت عبئًا ثقيلًا على المرضى، إذ منعت القيود والحصار الإسرائيليين الطواقم الطبية من تشخيص الحالات ومتابعتها بسبب نقص الأجهزة التخصصية.

تتقاطع هذه الأرقام مع ما أكّده الطبيب محمد أبو ندى، المدير الطبي لمركز غزة للسرطان في مستشفى غزة الأوروبي، الذي أوضح أنّه قبل الحرب كان هناك حوالي 11 ألف مريض سرطان في القطاع، ومع تصاعد الوفيات بسبب نقص العلاج خلال الحرب، ارتفع العدد ليصل إلى 13 ألفًا.

وفي ظلّ هذا التدهور، لا تستطيع وزارة الصحة الفلسطينية إجراء إحصاءات دقيقة حول وفيات مرضى السرطان بسبب غياب الأجهزة التخصصية؛ إلا أن الطبيب أبو ندى يُقدِّر أن حالتين أو أكثر من المرضى يموتون يوميًا بسبب تأخر العلاج، مشيرًا إلى أنَّ بعض هذه الوفيات تكون بسبب نقص المضادات الحيوية، التي يحتاجها المرضى لعلاج التهابات قد تتسبب في وفاتهم.

وقال أبو ندى في حديثٍ مع "آخر قصة": "من هؤلاء المرضى، هناك حوالي 1500 مريض يحتاجون إلى علاج وتشخيص خارج القطاع، بينما حصل 5000 مريض على تحويلات طبية، ولكنهم لم يستطيعوا مغادرة غزة بسبب القيود الإسرائيلية."

من هؤلاء، تهاني الريفي في منتصف العقد الخامس، اكتشفت إصابتها بسرطان الثدي عام 2018، وتلّقت العلاج في مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني وسط قطاع غزة الذي توقف عن الخدمة مطلع نوفمبر 2023؛ بسبب الأضرار البالغة في المبنى وتعطّل الأنظمة الكهروميكانيكية إثر استهدافه بالغارات الجوية الإسرائيلية.

اليوم، لا تجد تهاني في غزة سوى معاناتها، إذ توقفت كل العلاجات منذ بداية الحرب. تقول السيدة بصوتٍ مخنوق من الألم: "أعيش على المسكنات فقط لكي أتمكن من النوم قليلًا، ولكن الوجع يزداد يومًا بعد يوم"، وعلى الرغم من حصولها على تحويلةٍ طبية، إلا أنها ما زالت تنتظر دورها للسفر دون أملٍ قريب.

يُؤكد الباحث الحقوقي باسم أبو جري، أنّ حرمان مرضى السرطان تلقي العلاج في غزة يتنافى مع المبادئ الإنسانية والقوانين الدولية التي تضمن حقوق المرضى في الحصول على الرعاية الصحيّة اللازمة. 

يتقاطع ما قاله الحقوقي أبو جري مع ما ورد في المادة (3) من اتفاقيات جنيف في (النسخة الرابعة) لعام 1949، "أنّه في حال النزاعات المسلحة، يجب على أطراف النزاع احترام حقوق المدنيين وحمايتهم، بما في ذلك تقديم الرعاية الطبية لهم. وتمنع المعوقات التي تحول دون الوصول إلى الرعاية الصحية مثل القيود المفروضة على السفر للعلاج".

ويقول أبو جري: "إنّ الوضع في غزة يتطلب تدخلاً عاجلاً من المجتمع الدولي، لإنقاذ حياة المرضى وتمكيّنهم من العلاج في الخارج، مع ضرورة إعادة تأهيل المشافي وإدخال الأدوية والمواد الطبية الأساسية".

وعلى الرغم من أن وزارة الصحة الفلسطينية تقع عليها مسؤولية كبيرة تجاه هؤلاء المرضى، باعتبارها الجهة الحكومية الوحيدة المسؤولة عن تسهيل سفر المرضى أو تقديم العلاج لهم. غير أنّ الطبيب محمد أبو ندى، أشار إلى أنّ المنظومة الصحيّة في القطاع غير قادرة على توفير العلاج لمرضى السرطان، وأرجع ذلك إلى تدمير الاحتلال للمشافي ومنعه دخول الأجهزة التشخيصية والإشعاعية؛ مما أدى إلى تدّاعيات خطيرة على جودة الرعاية الصحية المقدمة للمرضى.

صباح فضل، البالغة من العمر 49 عامًا، أُصيبت بسرطان العظام قبل عشر سنوات، ومع تقدم المرض، تدهورت حالتها الصحيّة بشكل كبير فأصبحت طريحة الفراش، وأصبح وزنها يُراوح الأربعين كيلوغرامًا فقط، ما جعل معاناتها الجسدية والنفسية أكثر قسوة.

"لم أعد أتحمّل الألم، ولا أستطيع أن أعيش حياة طبيعية بعد الآن"، تقول صباح بصوتٍ متعب، إذ حرمها المرض من ممارسة حياتها بشكلٍ طبيعي وحال دون قدرتها على تربية أبنائها الذين كبروا على مشهد مرض والدتهم، والقيام بواجباتها كربة منزل بشكلٍ طبيعي.

صباح هي أم لخمسة أطفال، أكبرهم في التاسعة عشرة من عمره وهو عاطل عن العمل كوالده، إذ تعيش الأسرة التي تعتمد على المساعدات الإنسانية في وضعٍ صعب لا يتيح لها تحمل عبء تكاليف السفر أو العلاج.

وقد أدّت الظروف الصحية والاقتصادية المعقدة، إلى جانب غياب العلاج الكافي في غزة، إلى تفاقم حالة صباح. توقفت العلاجات الضرورية، ورغم حصولها على تحويلة طبية للعلاج بالخارج، أصبح سفرها أمرًا شبه مستحيل بسبب القيود المفروضة على السفر وإغلاق المعابر، ما يزيد من معاناتها المستمرة دون أي أُفق للتحسن.

تحتاج هذه السيدة إلى علاج إشعاعي وهو ما لا يتوفر داخل قطاع غزة. وعلى الرغم من أن 30% من مرضى السرطان في غزة بحاجة ماسة لهذا العلاج، إلا أنه لا يتوفر في القطاع، وفقًا لما أكّد عليه الطبيب أبو ندى الذي أشار أيضًا إلى أنّ وزارة الصحة الفلسطينية لا توفر سوى 30% من مجمل أدوية السرطان للمرضى؛ في حين يبقى 70% من الأدوية الضرورية مفقودًا، وهو ما يترك المرضى في مواجهة مع مصيرهم القاتم.

منذ أغسطس 2024، بدأت وزارة الصحة الفلسطينية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية في توفير العلاج الكيميائي جزئيًا في مجمع ناصر الطبي؛ لكن هذا لا يكفي لسدّ احتياجات المرضى، بحسب إفاداتٍ طبيّة، فعددهم في تزايدٍ مستمر، كما لا يزال القطاع يعاني غياب جهاز الرنين المغناطيسي، الذي يُعد أساسيًا لتشخيص الأورام ومتابعتها.

وقد ازداد الوضع سوءًا بعد إغلاق معبر رفح البري، إذ تعطلت رحلات العلاج للآلاف من المرضى. يقول الحقوقي باسم أبو جري: "المنظومة الصحية في غزة أصبحت عاجزة عن توفير الرعاية اللازمة للمرضى في ظلّ التدمير المستمر للمرافق الطبية، لا بد من تدخل عاجل من المنظمات الدولية لتوفير العلاج والتمويل اللازم لإنقاذ حياة هؤلاء المرضى."

تظلّ معاناة مريضات السرطان في غزة مستمرة، حيث يواجهن خيارين مؤلمين: الموت أو الانتظار دون أمل في ظلّ ضعف جهود وزارة الصحة والقيود القاسية التي يفرضها الاحتلال على السفر، فيما يبقى الحل الوحيد في تكثيف الجهود المحلية والدولية لإنقاذ حياتهن بتوفير الأدوية والعلاج داخل القطاع، أو تمكين المرضى من السفر لتلقي العلاج بالخارج قبل أن تسرقهن ساعات الزمن.

 

موضوعات ذات صلّة:

مرضى السرطان في غزة... ألم مضاعف

مريضات السرطان في قطاع غزة يواجهن خطر الموت المحقق خلال جريمة الإبادة

بين السرطان والنزوح: أم تروي مأساتها

آمال 25 ألف جريح ومريض غزي معلقة بإعادة فتح معبر رفح

الجرحى المغتربون: شتات إلى أجل غير مسمى