مرسم ميساء: نجا من الحرب ليكون ملاذًا للأطفال

مرسم ميساء: نجا من الحرب ليكون ملاذًا للأطفال

ترتعش يد الفنانة ميساء يوسف وهي تشير إلى زاوية داخل منزلها المدمر في دير البلح وسط قطاع غزة، إذ كانت جدرانه يوماً ما تنبض بالألوان المُبهجة، أما الآن، لم يتبقَ سوى الرماد يغطي المكان الذي كان ملاذاً لأطفالها الصغار يمارسوا فيه الفن.

تبحث ميساء بين الحجارة السوداء عن بقايا لوحاتها وألوانها، بينما يجتمع حولها طلابها الصغار لمساعدتها في جمع ما تبقى من أدوات فنية.  

ميساء معلمة الفنون البالغة من العمر 40 عاماً، فقدت مرسمها الصغير الذي كان يحتل مساحةً صغيرةً في إحدى زاويا منزلها، بعد أن طالته القذائف الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة على غزة.

لقد تحوّل المرسم الذي كان مليئاً باللوحات والألوان إلى رماد، لكن إرادة هذه الفنانة لم تنكسر، فعلى الرغم من الدمار، استجابت لإلحاح طلابها بإعادة إحياء جزء من المرسم، لتُؤكد أنَّ الفن يبقى وسيلة لمواجهة الواقع القاسي.  

تقول ميساء في حديثٍ لـ "آخر قصة": "خلال الحرب حاولت أن أطور مهارة الرسم لدى الأطفال الراغبين في تطوير موهبتهم، لكن لم يكن متاحًا لي ذلك بشكل يسير، ولكني حاولت. وبمجرد انتهاء الحرب، أعدت الإعلان عن عقد ورشات للرسم للصغار، فوجدت إقبالًا كبيرًا، على الرغم من أن مرسمي الذي عهدوه مبهجًا قد تحول إلى اللون الأسود وأضحى معتمًا كئيبًا".

لم تكن ميساء الوحيدة التي فقدت مرسمها خلال الحرب؛ فقد أشارت تقارير إلى أن الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر 2023 أدى إلى تدمير العديد من معالم التراث الثقافي، بما في ذلك المراسم الفنية والمعارض. ووفقًا لمصادر رسمية مختلفة، فقد تم استهداف المستشفيات والمدارس والجامعات والمكتبات والمتاحف والمساجد والكنائس عمدًا، مما أثر بشكل كبير على المشهد الثقافي في القطاع.

كانت المعلمة يوسف تحاول أن تنتشل الأطفال من واقع الحرب والخوف الذي يعتريهم نتيجة الموت السائد، ولكن لأن الأطفال جزء لا يتجزأ من الواقع، فلم تنجح محاولتها لأن غالبية الرسومات جسدت ظروف الحرب ومشاهدها المأساوية.

وقالت: "كانت لدي طالبة تدعى فرح منتظمة جدًا في حضور الورشات الفنية، طلبت منها أن ترسم ما يجول بخاطرها، فرسمت والدتها وكتبت "يما نفسي أشوفك، اشتقتلك، هيجي رمضان وأنتِ مش معي"، مما أثر بي جدًا، فرسمت عائلتها وأهديت اللوحة لها، ففرحت بالهدية وعلقتها في خيمتها".

ليست فرح وحدها التي تعاني فقدَ بيتها ووالدتها في الحرب، آلاف الأطفال في غزة يعانون أوضاعًا مشابهة فبحسب تقديرات منظمة اليونيسف، هناك نحو 17 ألف طفل فلسطيني في غزة فقدوا أحد والديهم أو انفصلوا عنهم بسبب الحرب.

وعلى الرغم من كل الصعوبات والتشوّه الكبير الذي طال مرسم الفنانة ميساء إلا أنها تُحاول أن تكون ملجأ لهؤلاء الأطفال.  ومع أن المرسم لم يعد ملائم بشكل كاف لاستقبال الأطفال أو عقد ورش عمل فنية، لكنَّ ميساء مجبرة على فعل ذلك نظراً للدمار الواسع وعدم وجود بدائل. غير أنها تواجد تحدي توفير الأدوات اللازمة للرسم، حيث وصفت الأمر بأنه في غاية التعقيد، بسبب انعدام الأدوات وارتفاع أسعار المتوفر منها، على نحو مبالغ فيه. 

يعلق الدكتور حمدان طه، المتخصص في علم الآثار، على ذلك بقوله: "إن أعمال التدمير الواسعة التي تعرض لها التراث الثقافي الفلسطيني خلال الحرب على غزة تتخذ شكل "إبادة ثقافية ممنهجة"، شملت المواقع الأثرية والمباني التاريخية والدينية، والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، والمباني العامة، والبنى التحتية".

بالعودة إلى ميساء التي تمسح يديها الملطخة بالألوان فقالت: "الحصار كان مفروضًا علينا حتى قبل الحرب، وفي الأشهر الأخيرة لم أتمكن من الحصول على خامات وألوان معينة بسبب القيود على الواردات إلى غزة، وإن توفرت بعض الأدوات، كانت أسعارها مرتفعة جدًا، ما دفعني لاستخدام خامات بديلة مثل الورق الملون، الجرائد، القماش، الخيوط، وحتى القشور الجافة كالثوم وجوز الهند".

حاليًا، تعمل ميساء على إنتاج ثلاثة أعمال فنية بأسلوب فن الكولاج، مستخدمة خامات بيئية متنوعة إلى جانب ألوان الأكريليك التي تمكنت من استخراجها من تحت ركام مرسمها. لكنها تواجه نقصًا في الغراء الضروري لبعض اللوحات، فاستبدلته بالإبرة والخيط لإنجاز أعمال تحاكي الحرب "من اللاشيء"، كما تقول.

لم يختلف محتوى لوحات ميساء الفنية كثيرًا عما قبل الحرب، حيث كانت ترسم الحصار وتعبر عن النكبة الفلسطينية الممتدة في لوحات فنية مختلفة، والآن تعاود فعل الشيء ذاته، مع اختلاف أنها فقدت بعض طلابها من المواهب الفنية الصغيرة بسبب الحرب، والذي كانت لوحاتهم تحمل الكثير من الأمل بمستقبل أفضل.

عندما شاركت ميساء في معرضٍ فنّي جماعي عام 2002، كان مشاركتها بلوحات مرسومة بقلم الفحم تعبر عن النكبة الفلسطينية عام 1948، أما اليوم تعبر لوحاتها عن "النكبة الحديثة" كما وصفتها ولكن هذه المرّة ترسم بما يتوفر من ألوان ومواد في ظلّ الشُح الكبير كالخامات المتبقية من القماش الملون والكرتون والخيوط والجرائد والمجلات.

لكنَّ الصعوبات لا تقتصر على نقص المواد، فإيجاد فكرة مميزة وتطبيقها بأدوات محدودة يشكل تحديًا آخر. توضح: "أحيانًا تولد الفكرة فجأة، فأبدأ في تنفيذها فورًا، بينما تستغرق بعض الأفكار وقتًا أطول، لأنها تحتاج أدوات غير متوفرة في غزة".

إلى جانب العقبات المادية واللوجستية، تواجه ميساء ضغطًا نفسيًا يعيق إبداعها. تقول لـ "آخر قصة": "الحالة المزاجية الجيدة مهمة للفن، لكنني أعاني أحيانًا من فقدان الشغف. لكني أؤنب نفسي عندما أنظر إلى أطفالي الثلاثة الذين ورثوا موهبة الرسم عني، وطلابي الذين يقطعون المسافات للوصول إلى حصصي رغم وعورة الطرق".

كانت ميساء تشارك طلابها الصغار قصة كل لوحة ترسمها، لكن الحريق الذي نشب في البيت نتيجة القصف قد التهم معظم أعمالها، تاركًا وراءه أسماء من رماد، مثل "ناطرك يا وطن"، و"فلسطين ليست بعيدة"، و"خيام"، و"عازف العود". رغم ذلك، لا تزال بعض أعمالها محفوظة على منصة Art Zone، كما أرسلت أعمالًا أخرى قبل الحرب إلى معارض في مصر، المغرب، والأردن.

ورغم ضبابية المستقبل، تحلم ميساء بأن تتجول في المتاحف العالمية، تتأمل لوحات كبار الفنانين، وترى أعمالها التي تعكس الواقع الفلسطيني تعرض إلى جانبهم في معارض دولية، لتوصل صوت غزة وأطفالها إلى العالم.

 

موضوعات ذات صلّة:

"الفن" الناجي الوحيد من حصار غزة

قذيفة تضع حداً لمستقبل فنانة شابة من غزة

طفل يجسد معاناة صيادي غزة بالرسم

الموسيقى في غزة: ملاذ نفسي لمواجهة الحرب

"الطويل" يكافح من أجل الفن التشكيلي