الرغبة باستعادة المواسم: محاولات البقاء الغزية

الرغبة باستعادة المواسم: محاولات البقاء الغزية

بالامتثال إلى القول الشعري لمحمود درويش في "يوميات الحزن العادي". 

"إذا جاءك الفرح مرة أخرى، فلا تتذكر خيانته السابقة؛ بل ادخل إلى الفرح وانفجر" لا تبدو الصورة الشعرية صورة مطابقة أو مترجمة لواقع الفعل الغزي مع حالته ورغبته باستعادة المواسم ولحظاتها المرتبطة بالفرح.

توحد الغزي مع واقعه وحالته نتيجة الحصار المفروض منذ ما يقارب العقدين ليبدو وكأنّه متعايش مع هذا الحيز بما يضمن له أن يحيا كما يشاء في واقعٍ غير طبيعي فلا منفذ أو بوابة أخرى يختارها الغزي سوى هذا الحيز المتاح (قطاع غزة) من شماله إلى جنوبه؛ مما يجعله طوال الوقت متأرجحاً بين فعل الموت المفروض ورغبة العيش الحالمة. 

على مدار ما يقارب العقدان والحروب والتصعيدات أشبه بأسلوب حياة غزي ما يلبث أن يستعيد فيها الغزي عافية الحياة حتى تباغته الحرب مرة أخرى، وكأنّ مسافة العيش هي فسحة الحياة بين حرب وحرب؛ لذلك صار الغزي على خصوصية حالته من حصار وحرب كراكض نحو أي فرصة فرح لينفجر بها لأن موتاً يلاحقه بعد حين.

أذكر واحدة من الصور المختزنة في ذاكرة أيام الحرب المكررة عام 2021 حينما اشتعل فتيل الحرب المرتبط بدوامتها المكررة في أواخر أيام شهر رمضان آنذاك كان البيت والبيوت من حوله تتجهز لاستقبال عيد الفطر، هاجمت رائحة المعمول نافذة الغرفة قادمة من نافذة مطبخ الجارة لوّحت لها ومازحتها:

"حرب، ومعمول، يكفي اللي معمول فينا" نظرت إليّ مبتسمة وقالت: "بس العيد ما بستنى الحرب تخلص، العيد جاي جاي، والحرب رح تخلص"، ومضت ترص الصواني في مطبخها غير آبهة بأصوات القصف التي تعلو وتهز البيوت وفرحتها باقتراب موعد العيد.

أما عن صورة سابقة لهذه الأيام في صيف 2014 صادف فتيل الحرب ودوامته أوائل أيام شهر رمضان وامتدت حتى أيام العيد (الفطر) وانتهت قرب موعد أيام عيد الأضحى، عاصرت الحرب مواسم الفرح الثلاث حتى أنها قتلت خلال أيام عيد الفطر أطفالاً يلهون على أرجوحة العيد في مخيم الشاطئ غرب المدينة.

وكأنّ الغزي المتأرجح يهادن فعل الموت المفروض برغبة الحياة الملحة، فلا يتنازل عن عادات المواسم وما يلزمها من استعدادت للفرح. ربما ذاك ما يشكل عداء حقيقيًا مع الاحتلال، أن تنبت الحالة الطبيعية في زمن غير طبيعي، فتخلق الحرب حالة غير طبيعية في كل مرة: 

"تقتل، تمنع، تفصل، تحاصر، تهدم، تحرق، تدمر"،  وهكذا وصولاً إلى فعل الإبادة الذي عاصرناه على مدار خمسة عشر شهراً متواصلاً. وفي ظرف غير طبيعي يقف الغزي طبيعياً يمارس شعور الفرح. ليظهر ذلك وكأنّه أحد ضروب الخيال لمتتبع شخصية في رواية مثلاً أو في عمل درامي تراجيدي.

بيدٍ يمسح دمعًا وبيد أخرى يلوح للفرح. الأزمة تكمن في أن هذا الفعل ليس خيال أو أحد ضروبه؛ بل واقعاً معاشاً أعاصره وأشهد وأشارك في فعل الحياة المرغوب والذي يبدو سلاح غزة الوحيد في صدّ الحرب عن يومياتها.

ما زلت أذكر تلك الصورة التي مرّت أمامي بالقرب من موقع "مجزرة" ارتكبها الاحتلال عام 2021 بشارع الوحدة تحديداً، إذ مرّ موكب عرس اخفض صوت الزفة احتراماً للجهود التي تقوم بها الآليات من محاولات البحث وإزالة الركام وآثار الحادثة، ثم عاد صوت الزفة وانطلق الصوت نحو مساره غرباً. 

تلك كانت الصورة المصاحبة لي لشرح طبيعة الواقع الغزي في تحدّيه لصورة الركام والرماد ورفضها وإنكارها على الدوام ليبدو الأمر أشبه بحالة "اعتياد الألم والوجع يحدّ من الرغبة بالبكاء واستطالة أمد الحزن"، وهي بالمناسبة فعلاً غزياً متعارفاً عليه بعنوان "المجاكرة" إذ هي حالة المهادنة العنيدة التي يفرضها الغزي على حظوظه الهشة في النجاة.

خلال حرب الأخيرة كنت أسمع على الدوام جملة "بكرا بتخلص الحرب، من تاني يوم رح ترجع الأعراس والحفلات والحياة" سمعتها مرات عدة وفي إحداها كان الحديث يدور في شاحنة نقل مواشي التي حوّلتها الحاجة لوسيلة نقل بين دير البلح ومواصي خانيونس، ليكمل السائق: "الحياة ما بتستني" 

لا يمكن اعتبار الأقوال هذه والنقاشات مجرد أقوال عابرة أو حديثاً لملء الفراغ في السيارات والطرقات بل تحدث عن قناعة حقيقية بالرغبة في الاستمرار بالحياة دون الالتفات للواقع غير الطبيعي الذي يفرضه الاحتلال والحروب على الدوام.

لا يكف الغزي عن محاولات العيش تلك أو إقرانها بمواسم وعادات الفرح، ففي أيام النزوح برفح جمعني حديث مع مجموعة من الصديقات حول حالة "نزيف الجهل" التي بدأت تجتاح أجيالًا نتيجة الانقطاع عن التعليم، بل وانهيار المنظومة التعليمية كاملة، كنا نحاول من خلال الحديث تبني مبادرات تساعد الأهالي على تجديد حالة الانضباط التي تؤسسها منظومة المدرسة بشكل أساسي، انتهى الحديث ومضينا نحو إحدى المكتبات فوجئنا لحظتها من كمية الأمهات اللواتي يصطحبن أبناءهن في رحلة البحث عن مجموعة من القصص والألعاب التعليمية اللازمة للقضاء على وقت فراغ وملل العيش في ظروف غير طبيعية. لتنفي تلك الصورة حقيقية أن شعباً جائعاً خائفاً لا يشكل مساحة ثقافة؛ بل ميزت الصورة تلك حاجة الأمهات الأساسية لأدوارهن الطبيعية في زمن غير طبيعي.

عدت إلى مدينة غزة منذ اللحظة الأولى لبدء إشارة العودة وانتهاء رحلة النزوح في نهاية يناير 2025، استمرت المدة أسبوعاً أحاول أرتب فيها الوضع الطارئ لي ومحاولة استعادة جزء من ذاكرتي مع المدينة وملامحها عشت صدمة الخوف والإنكار على مدار أسبوع أحاول فيها فهم طبيعة الظروف التي تصنع حالة طبيعية بعد شقاء النزوح والحرب المستمرة. 

قررت الهروب من واقع الركام وملامح المدينة المليئة باللون الرمادي حتى أنني أرسلت لصديقتي أمازحها بأنَّ عودتي إلى المدينة تمنعني أن أرتدي الأسود فالرماد والركام والغبار يفسد اللون الأسود فما بالك باللون الأبيض مثلاً، لا يمكن لنا أن نرتدي أي الألوان في رحلة البقاء بين الركام والغبار هذه، فهربت مرة أخرى نحو دير البلح لمدة عشرة أيام حتى تاريخ السابع عشر من فبراير 2025 في مؤشر البداية للاستقرار في المدينة بعد رحلة الحصول على بيت مستأجر كبديل عن البيت المدمر منذ أكتوبر 2023 في المدينة.

ومع بداية الاستقرار بدت الحاجة لاكتشاف الاحتياجات عبر الشوارع والمحالّ في ظنٍّ سابق بأن المدينة أشباح لا روح فيها نزلت إلى الشارع الأسبوع الماضي، لكن المفاجأة كانت هي حالة مملكة النحل التي أصابت المدينة المولات أعادت افتتاح أبوابها، المحلات تعرض بضاعتها، حالة التنافس الشديدة فيما بينهم عبر اتخاذ شعار "عاد بقوة" للوهلة الأولى يبدو الأمر استغلالاً تجارياً للأمر، لكن عندما تعلو الحاجة فتسقط كل حسابات التجارة والربح والخسارة، إذ إنّ الفعل الجمعي الغزي أمامي في شارع عمر المختار الآن يتجول بين المحالّ الجميع يسأل عن البضاعة وآخرين من معارف صادفتهم يعيدون تأثيث البيوت والمطبخ. وغيرها من الاستعدادات المعهودة لغزة قبل الحرب إذ تنطلق حملة التنزيلات على الأدوات المنزلية لجذب الزبائن، لا سيما قبل دخول رمضان بأيام.

يحدث هذا الأمر بشكلٍ مُتسارع مما يجعلك تقف في منتصف شارع النصر -تحديداً- أمام أحد المحالّ فتتسائل: هل انتهت الحرب بهذه السرعة إذا؟! لكن الإجابة تأتي على شكل دوار تدور فيه الحياة الغزية الآن، وهي أن معضلة العيش في غزة تتمثل في أن البطولة ليست في النجاة وحظوظها الهشة كل مرة بل بالبقاء، ومحاولات البقاء؛ ليظهر الفعل الخارق الآن فعلاً عادياً جداً.

 

روابط ذات صلّة:

غزة تتعافى سريعاً.. مشاهد حياة ما بعد الحرب

بعد أكثر من شهر على وقف إطلاق النار.. ماذا تغيّر في غزة؟

من العدوان إلى الشفاء: قصة التعافي من آثار القصف

ليسوا مجرد أرقام.. إعادة «إعمار» النفوس فى غزة قبل المبانى!