الثروة الحيوانية تبخرت: عن إفلاس مربي المواشي

الثروة الحيوانية تبخرت: عن إفلاس مربي المواشي

لم يسبق أن تعرض المزارع محمد عبد الرحمن (*)، لصدمة نفسية أعمق من تلك التي تسببت بها الحرب على قطاع غزة، وأدت إلى نفوق مزرعة الأغنام خاصته والتي كانت تضم ما يزيد عن 100 رأس من الأغنام. 

عبد الرحمن هو رجل في الخمسين من العمر، لديه سجل حافل بالتجارة وسبق أن تعرض لخسارات سابقة، لكنه قال "لم أر في حياتي أقسى من هذا المشهد الذي رأيت فيه نفوق عشرات الأغنام وتحول المزرعة إلى أنقاض".

وتكبد الرجل صاحب الشعر الأبيض خسائر تزيد قيمتها عن 100 ألف دولار حسب تقديره، ويعجز عن استعادة دورة حياة مشروعه الخاص والذي قال إنه كان يدر دخلاً على أسرته المكونة من 15 فرداً، إلى جانب عمال آخرين يفتحون بيوتاً وينفقون عليها من رواتبهم الشهرية.

لكن كل شيء الآن قد تبخر، وذهبت أحلام توسع وتطوير المشروع أدراج الرياح، حيث كان ينوي المزارع عبد الرحمن أن يستثمر التدريبات التنموية التي تلقاها في العام الأخير الذي سبق الحرب، في تطوير مشروعه بما يزيد من عدد المواشي ويسهم في تحسين مستوى دخله. وهو الآن أصبح عاطلا عن العمل دون أي فرص للدخل.

وقال عبد الرحمن إنه سيواجه أزمة تمتد إلى سنوات، على ضوء غياب أفق تقديم تعويضات عاجلة للمتضررين من الحرب وبخاصة أصاحب المشاريع الاقتصادية التي كانت تساعد في تشغيل الأيدي العاملة، وتسهم في إنعاش الاقتصاد المحلي المتهالك بفعل الحصار.

ولطالما شكّل قطاع الثروة الحيوانية في غزة دعامة أساسية للاقتصاد المحلي، حيث وفر فرص عمل واسعة وأسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم والدواجن ومشتقاتها، ما حدّ من الحاجة إلى الاستيراد. 

لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي استمرت 15 شهرًا، وجهت ضربة قاصمة لقطاع الثروة الحيوانية، تاركة المزارعين ومربي المواشي في مواجهة كارثة اقتصادية غير مسبوقة، طال الإفلاس العديد منهم، وتوقفت عجلة الإنتاج، مما أدى إلى نقص حاد في اللحوم والألبان والبيض، وإن توفرت، باتت أسعارها باهظة تفوق قدرة الفئات الأكثر هشاشة على شراءها.

تشير التقديرات المحلية، إلى أن الإنتاج الحيواني كان يسهم بنحو 39% من إجمالي الإنتاج الزراعي في غزة، ذلك قبل اندلاع الحرب، بقيمة مالية تصل إلى مليون دولار؛ لكن الضربات المتتالية التي واجهتها المزارع والمراعي أدت إلى خسائر فادحة، إذ كانت قيمة سوق اللحوم الحمراء تُقدر بـ 207 ملايين دولار، لكنها تكبّدت خسائر ضخمة بلغت 196 مليون دولار، ما أدى إلى انهيار شبه كامل لهذا القطاع الحيوي.

الآن، وبعد وقف إطلاق النار في غزة، تكشّفت الخسائر الفادحة التي لحقت بقطاع الثروة الحيوانية، وسط غياب أي حلول أو بوادر لتعافٍ قريب. هذا ما يؤكده محمد الأدهم، أحد مربي مواشي، حيث تعرض لإفلاس تام خلال الحرب الإسرائيلية، بعدما دُمرت أرضه التي كانت مصدر رزقه الوحيد، ونفقت جميع المواشي التي كان يربيها. 

يقطن الأدهم في منطقة العطاطرة بمدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة. يروي بمرارة عن خسارته: "كانت أرضي تمتد على مساحة 600 متر، نزحت مع اندلاع الحرب وتركْتُ خلفي العجول والأغنام والأبقار والدواجن، وحتى حصاني وحماري، عدت في فبراير 2024، لأجد أرضي خاوية تمامًا، كل الحيوانات قُتلت، لكن آثارها ظلت شاهدة على الدمار". 

يصمت الرجل لوهلة، ثم يتنهد بحزن قبل أن يضيف: "خسرت آلاف الدولارات، وحجم خسائري بلغ 50 ألف دولار، وإلى جانب ذلك، أُثقلَت كاهلي بديون تبلغ 10 آلاف دولار لتجار الأعلاف".

يشعر الأدهم بمرارة مضاعفة، ليس فقط بسبب فقدانه مصدر رزقه، بل أيضاً لتجاهل الجهات المختصة لمحنته ومحنة آلاف مربي المواشي الآخرين، الذين وجدوا أنفسهم في صفوف البطالة، بلا أي دعم أو تعويض.

ويكشف تقرير صادر عن وزارة الزراعة الفلسطينية في غزة، عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بقطاع الثروة الحيوانية. فقبل الحرب، كان في غزة نحو 2,500 مزرعة، تنتج سنويًا 36 مليون دجاجة، لكن الحرب أدت إلى تدمير 90% من هذه المزارع، ما أدى إلى نفوق كامل الإنتاج وشلل دورة الإنتاج تمامًا. 

أما قطاع تربية النحل، فقد مُني بخسائر كارثية، حيث دُمِّرت جميع خلايا النحل البالغ عددها 20 ألف خلية، مما أدى إلى فقدان إنتاج يقدر بـ 250 طنًا من العسل.

في الغضون، أكد الناطق الإعلامي باسم وزارة الزراعة، محمد أبو عودة، أن تدمير منشآت الإنتاج الحيواني، سواء عبر القصف أو التجريف، ألحق ضررًا بالغًا بمزارع الحيوانات والطيور، إلى جانب المعدات وفقاسات البيض المخصب، وشكّل تحديًا هائلًا أمام الوزارة ومربي المواشي، في ظلّ انعدام القدرة المالية وغياب المواد الخام اللازمة لإعادة إحياء القطاع من جديد. 

وقال أبو عودة لمراسلة "آخر قصة"، "انخفضت القيمة المالية للإنتاج الحيواني إلى 232 مليون دولار، بعدما كانت 244.5 مليون دولار قبل الحرب. كما تعرض قطاع الصادرات لشلل تام، حيث كانت جلود الأبقار تصدَّر للخارج، مما كان يوفر دخلًا بالعملة الصعبة، لكن الحرب أدت إلى خسائر تقدر بـ 0.2 مليون دولار من عائدات التصدير." ويمنع الحصار المستمر على غزة إدخال مستلزمات الإنتاج الضرورية للقطاع الحيواني، مما يعمّق الأزمة. 

وشدد المتحدث باسم الوزارة، على ضرورة السماح بإدخال المواشي والأعلاف إلى غزة، حتى يتمكن العاملون في هذا القطاع من استئناف نشاطهم، ولتتمكن الوزارة من تنفيذ خطتها المستقبلية، التي تبدأ بالمساعدات الإغاثية للعاملين، ثم مرحلة الإنعاش السريع عبر إعادة تأهيل المزارع لاستقبال الحيوانات مجددًا، حسبما قال.

تشير التقديرات إلى أن الحرب أدّت إلى نفوق مليون طير حبش سنويًا، إلى جانب 80% من الطيور الأخرى. كما تسبب الدمار في فقدان جميع العجول التي كانت تُربّى في 100 مزرعة تضم 50 ألف عجل، بالإضافة إلى نفوق 60 ألف رأس من الأغنام والماعز التي كانت موزعة على 5,000 مزرعة. 

ولم تقتصر الخسائر على الثروة الحيوانية، بل طالت أيضًا قطاع الألبان، الذي كان يوفر اكتفاء ذاتي نسبيًا قبل الحرب، حيث بلغت خسائره 10.8 ملايين دولار. أما فقاسات البيض، فقد تضررت بشكل كبير، حيث دُمرت 20 فقاسة من أصل 22، ما أدى إلى انهيار إنتاج 40 مليون بيضة سنويًا.

وبحسب تقارير تابعة لمنظمة الأغدية والزارعة  فأنّ العلف الحيواني أُدخل لأول مرة منذ السابع من أكتوبر، في أبريل 2024، وقُدِّر عدده بحوالي 1500 طن، إذ تم توزيعه على 1600 مزارع بواقع كيس علف واحد لكل منهم تبلغ كميته 50 كيلوغرامًا، وفي أغسطس 2024 تم توزيع 2452 مجموعة من الأدوات البيطرية لمربي المواشي، في محاولة لتحسين الواقع الحيواني في غزة، وإنعاش السلاسل الغذائية.

أضرَّ توقف عجلة الإنتاج في قطاع الثروة الحيوانية بمجمل الاقتصاد المحلي؛ مما تسبب في خسارات لا يمكن تلافيها في وقتٍ قصير.

ووفقا لوجهة نظر المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، فإن هذه الخسائر أدت إلى تسريح آلاف العمال وتوقف عجلة الإنتاج، مما أدى لانعدام في الأمن الغذائي الذي كان يوفره قطاع المواشي، وارتفاع الأسعار بما تبقى من طيور أو أغنام وخلافه من حيوانات نتج عنه زيادة نسبة التضخم وهذا زاد من معاناة الأهالي خلال المجاعة. 

وأكد أبو قمر في حديثه لمراسلة "آخر قصة، أن هناك بعض المحاولات الفردية لتربية بعض المواشي ولكنها غير منظمة، إذ ترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخال المواشي والمستلزمات اللازمة لإنتاج الثروة الحيوانية حتى هذه اللحظة، وهذا يؤثر على الاقتصاد المحلي خصوصًا أن موسم الأضاحي قد اقترب، وفي عام 2023 كان آخر موسم له إذ تم استيراد حوالي 39 ألف رأس ماشية، لذلك ستظل نسب الركود في الناتج المحلي الإجمالي قائمة حتى ينتعش السوق.

ومما لا شك فيه فإنّ ما تعرضت له الأراضي الزراعية في غزة ومزارع الثروة الحيوانية، يعد شكلاً من أشكال انتهاك الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية. ويؤكد المحامي في القانون الدولى يحيى محارب إن ما ارتكبته إسرائيل من تدمير لمقومات الحياة في غزة يعد انتهاكًا للقانون الدولي، وتجريف مزارع الماشية وقتل الحيوانات يعد شكلًا من أشكال الانتهاك، ورغم عدم وجود نص صريح في المواثيق الدولية يحظر استهداف الثروة الحيوانية، إلا أن القوانين الخاصة بحماية الممتلكات المدنية والبيئة تُشير ضمنيًا إلى ضرورة الحفاظ عليها. 

وأوضح المحامي محارب في حديثه لمراسلة "آخر قصة" أن نص المادة (55) من البروتوكول الإضافي الأول يحظر استخدام وسائل خلال الحرب تسبب ضرر طويل الأمد للبيئة، ومن هنا يفهم بضرورة حماية قطاع الإنتاج الحيواني، داعيًا المؤسسات المعنية بضرورة للتدخل لإحياء الإنتاج الحيواني في غزة، ودعم العاملين في هذا القطاع.

 

مواضيع ذات صلّة:

طابور الجوع

كم تحتاج سلة غزة الزراعية وقتاً للتعافي؟   

تدمير القطاع الزراعي في غزة: آثار الحرب الإسرائيلية ومسارات النهوض

الاحتلال يبيد الثروتين الزراعية والحيوانية وصولًا لإبادة غزة