في أحد أيام الشتاء الباردة، كانت إسراء محمود (28 عامًا)، أم لطفلين، تسير في أحد أسواق مدينة غزة لتشتري بعض الاحتياجات الأساسية لعائلتها. فجأة، شعرت بدوار شديد، تلاه تشوش في الرؤية، وقبل أن تتمكن من طلب المساعدة، سقطت أرضًا وفقدت الوعي.
نُقلت إسراء إلى المستشفى على وجه السرعة، حيث أجرى الأطباء سلسلة من الفحوصات، كانت النتائج صادمة: إسراء تعاني من نقص حاد في فيتامين (د)، والحديد، وفيتامين (B12). هذه النواقص الغذائية كانت نتيجة مباشرة لأشهر طويلة من سوء التغذية التي تعرضت لها بسبب المجاعة التي عانت منها هي وعائلتها في ظل ظروف اقتصادية صعبة في شمال قطاع غزة نتيجة الحرب التي استمرت 15 شهراً.
تقول إسراء: "كُنت أعطي أولادي كل ما أستطيع، حتى لو كان ذلك يعني أن أتخلى عن وجبتي، لم أكن أعلم أن هذا سيؤثر عليّ بهذا الشكل"، لكن الأطباء أوضحوا لها أن جسمها، بعد وقت طويل من الحرمان وانعدام التغذية، لم يعد قادرًا على تحمل الضغوط اليومية العادية.
هذه القصة ليست فريدة من نوعها. فالكثير من سكان قطاع غزة، وخاصة في أولئك الذين لم ينزحوا عن شمال قطاع غزة طيلة أيام الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023، يواجهون تحديات مماثلة، ولكن، كما تؤكد منظمة الصحة العالمية، فإن التعافي ممكن إذا تم اتباع نظام غذائي صحي ودعم طبي مناسب.
وبكل تأكيد فإن المجاعة خلفت آثارًا عميقة على الصحة الجسدية والنفسية، للكثير من السكان وبخاصة النساء، ولكن ما الذي يحدث للجسم بعد انتهاء هذه الفترة الصعبة؟ وكيف يمكن للنظام الغذائي الصحي أن يعيد التوازن؟ لنلقي نظرة على ما يقوله المختصون والأدلة العلمية والتوجيهات العالمية.
الجسم بعد المجاعة: تحديات كبيرة
عندما يتعرض الإنسان للمجاعة، يدخل الجسم في حالة طوارئ لمواجهة نقص الغذاء. وفقًا لدراسات منشورة في مجلات طبية مثل "The Lancet"، يبدأ الجسم بتفكيك العضلات والأنسجة لاستخدامها كمصدر للطاقة. كما أن نقص الفيتامينات والمعادن يؤدي إلى إضعاف الجهاز المناعي، مما يجعل الشخص أكثر عرضة للأمراض.
وبحسب منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن إعادة التغذية بعد المجاعة يجب أن تتم بحذر شديد. فالجسم، بعد فترة طويلة من الحرمان، يصبح غير قادر على التعامل مع الطعام بشكل طبيعي، مما قد يؤدي إلى حالة خطيرة تُعرف بـ "متلازمة إعادة التغذية" (Refeeding Syndrome). هذه المتلازمة تحدث بسبب اختلال في مستويات الكهارل مثل الفوسفات والبوتاسيوم، مما قد يهدد الحياة إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.
وتقول مدربة اللياقة البدنية شيرين العيلة، إنه من الواجب أن تجري النساء على وجه الخصوص فحصاً لاستكشاف مستوى الفيتامينات في الجسم وبخاصة فيتامين (د)، لأن المجاعة التي عاشها السكان ألقت بظلال سلبية على صحتهن.
وأوضحت العيلة أن النساء يعتبرن أكثر تأثراً بواقع المجاعة من الذكور نتيجة السوائل التي يفقدها الجسم خلال الدورة الشهرية، مؤكدة أنه من الواضح اتباع نظام غذائي مناسب يضمن سلامة الجسم ويشكل مناعة أمام الأمراض.
التوجيهات العالمية: كيف نبدأ؟
بناءً على توجيهات منظمة الصحة العالمية، فإن اعتماد برنامج غذائي صحي بعد المجاعة ليس مجرد خيار، بل ضرورة قصوى. يجب أن يبدأ هذا البرنامج بوجبات صغيرة ومتكررة، تحتوي على سعرات حرارية معتدلة، مع التركيز على البروتين عالي الجودة لدعم إعادة بناء العضلات.
وتشير المنظمة إلى أن الأطعمة الغنية بالبروتين، مثل البيض والأسماك والبقوليات، يجب أن تكون جزءًا أساسيًا من النظام الغذائي. بالإضافة إلى ذلك، يجب تضمين الفواكه والخضروات لتعويض نقص الفيتامينات والمعادن، مع مراعاة تجنب الأطعمة الثقيلة أو المصنعة التي قد تثقل على الجهاز الهضمي.
البروتين والفيتامينات: أبطال التعافي
وفقًا لدراسات نشرتها "مجلة التغذية السريرية" (Journal of Clinical Nutrition)، فإن البروتين يلعب دورًا محوريًا في إصلاح الأنسجة التالفة ودعم الجهاز المناعي. كما أن الفيتامينات مثل فيتامين (أ) و(د) والمعادن مثل الحديد والزنك ضرورية لاستعادة الوظائف الحيوية للجسم.
ولكن، ليست كل الدهون سيئة. الدهون الصحية، مثل تلك الموجودة في المكسرات والأفوكادو وزيت الزيتون، تساعد في استعادة الطاقة ودعم صحة القلب. ومع ذلك، يجب تجنب الدهون غير الصحية والسكريات المكررة، خاصة في المراحل الأولى من التعافي.
الدعم النفسي: جزء لا يتجزأ من العلاج
بالإضافة إلى الجانب الجسدي، تؤكد منظمة الصحة العالمية على أهمية الدعم النفسي للأشخاص الذين تعرضوا للمجاعة. فالتجربة القاسية قد تترك آثارًا نفسية مثل القلق والاكتئاب، مما يتطلب تدخلًا متخصصًا لمساعدة الأفراد على تجاوز هذه الصدمة.
بفضل التوجيهات العلمية والرعاية المناسبة، يمكن للأشخاص الذين تعرضوا للمجاعة أن يعيدوا بناء أجسامهم وحياتهم. النظام الغذائي الصحي، إلى جانب الدعم الطبي والنفسي، هو المفتاح لاستعادة الصحة والتوازن. وكما تقول منظمة الصحة العالمية: "التغذية السليمة هي الخطوة الأولى نحو مستقبل صحي".
التغذية والمجاعة بغزة