حواس تائهة:  ملامح المدينة تتغير

حواس تائهة:  ملامح المدينة تتغير

منذ بدء الحرب أكتوبر 2023 وما زال الجميع يردد "إعادة هندسة شكل غزة"، تتردد العبارة أمامي وأنا أحتفظ بذاكرتي عن غزة في رأسي، رأسي الذي بدا مثل صندوق هائل من ذكريات المدينة، أحتفظ به كلما نزحت من مكان إلى أخر، رفضت استبدال ذاكرة حواسي مع الأشياء.

أخبر أصدقائي عن تجربة نزوح خانيونس بأنها أعادت لي مفهوم "التوحد" حيث الرهاب الاجتماعي والخوف من فكرة الخروج من بوابة بيت النزوح، وفي رفح كنت أسير بميكانيزم دفاع خاص بي أسميه "إطفاء الحواس"، كل الأصوات التي تتردد في رأسي كانت خط السير من البيت في منطقة التوام مروراً بالكرامة ووصولاً إلى حي النصر غرب مدينة غزة. 

المحطات التي تربت حواسي البصرية والسمعية وذاكرتي الحسية بشكل عام كرائحة الندى المختلط بالطين في الأراضي الزراعية القريبة من محطة "الخزندار"، صوت البحر القريب المرور بمحمص القهوة عند مدخل الحي، صوت تقافز حبات القهوة بالمحمص لم يكن مسموعاً لكن رائحة التحميص تلك التي تدخل إلى كافة مسامات الجلد تجعلك تبني صورة عن حالة الحبات التي تدور الآن في آلة التحميص وتنتظرك جاهزة مغلفة تقتنيها لسرٍّ خاص برائحة بدايات النهار وتشرب صور خيالاتك جميعها في فنجان مع نهاية اليوم في البيت، أو تحرص على أن تشارك زملاؤك القهوة في غرفة المدرسين.

رحلة المرور تلك من التوام حتى النصر، بداية الدخول في زحام المدينة في حي النصر محطة "بهلول"، الزحام النقطة (المحطة) التي تسمع بها أصوات السائقين وهمة العاملين والطلاب، يدعون الركاب حسب الأماكن المعروفة: "أزهر، أنصار، الشفا" عند المفترق الغربي، أما عند المفترق الشرقي فتنادي الأصوات: "سرايا، ساحة، شجاعية"، كأنّ المدينة كلها تجتمع في الصباح عند هذه المحطة التي يتخللها رائحة الفلافل الطازج من بوابات كثر، وزحام العربات الذاهبة نحو السوق المركزي. واستعدادات محل الحلويات القريب للمناسبات ومواسمها ولادة، زواج، نجاح، زيارات عائلية. بوابة المحل الذهبية، شيء ما يرفض بداخلي استبدال مفترق العودة وسط البلد في رفح بمفترق بهلول في شارع النصر بغزة، وشوارع الشابورة بحي النصر، وحتى حين نزحت إلى دير البلح التي كانت محطتي الأخيرة في النزوح، كان شيء ما يخيفني أن أعتاد شكل الحياة والطريق إلى بيت النزوح شرق دير البلح بالبداية، ثم جنوب غربها مؤخراً.

لا يمكن التنازل عن صندوق الذاكرة الذي أحمله برأسي إذ كنت أنقله كما تنقل الجدات صناديقهن المليئة بالذكريات، أمرّنه على التذكر، رأس به ذكريات بيتي وملامح حارتي، وحتى شكل البحر من نافذة البيت، وصراخ الصغار في الصباح، حتى موسيقى البداية بالإذاعة وصوت مذيع إذاعة القدس، الشعب، وصوت فيروز الذي تقطعه المذيعة لتباشر نقل الأخبار وصوتها الممل والمكرر بقول "صباح الخير"، وصوت الهواء خلف نافذة السيارة، وخطوات الطلبة للحاق بالباص، وحتى صافرة الشرطي عند مفترق "أبو طلال" وإشارة المرور المتعطلة عند مدخل مبنى "التشريعي"، وملامح الركاب السيارات.

لم أتنازل عن كل هذا في رأسي، كلما حاولت ملامح رحلات النزوح فرض نفسها على حواسي رفضتها وأغلقت رأسي الصندوق على ملامح ذاكرتي. كنت أخشى على هندسة ذاكرتي بملامح النزوح ففيه من الخذلان الثقيل جداً عليّ ما يكفي خاصة بعد أن فقدت البيت ولم أكن قريبة منه كي أنقذ ما يمكن إنقاذه منه، أو كنت حذرة فحملته وذكرياته في حقائب نزوحي. كان لدي خوف آخر من أن تنساب الذاكرة من رأسي دون أن ألحقها، أو أن أخون ذاكرتي هذه.

لكنني اليوم بعد أيام الحرب الخمسمائة التي أتمتها أقف في منتصف الشارع تحديداً عند مدخل الكرامة في طريقي إلى البيت، لا شك أن المشهد العام للمدينة قد حدثتني به الصور لكنني أقف اليوم أمام جثة حواسي كلها، فمحمص القهوة رماداً مكوماً لا رائحة تقفز منه، لا ضجيج في الطريق الذي أعرفه، "أنا حقاً تائهة". 

ليست هذه ذاكرتي التي تتطابق مع الصور التي احتفظت بها في صندوق وخشيت عليها، شيء ما يدفعني إلى أشعر بالخوف أكثر من أيام الحرب التي مرّت. لا شيء مما أحمل في ذاكرتي يتطابق معه الآن بينما أقف، ثم سرت نحو شارع البيت، وأصبحت أضيف على ذاكرتي كلمة "مفترض" كأن أقول "مفترض هذا مدخل الحارة" مفترض هذا بيت جارنا أبو محمد، ومفترض هذه صيدلية...

ولا أعرف كمْ "مفترض" أضفت على صندوق الذاكرة حتى بدا الأمر أشبه بالنكتة التي تقول "مبعدش، أي لم أحفظ عدد المرات التي قلت فيها مفترض". تكرر الأمر حينما دخلت مخيم جباليا رفقة أخي، الأمر أشبه بأنّ وحشاً ابتلع ملامح ذاكرة المكان فصار "مفترض هذا محل ملابس" مفترض هذا الموقف الخاص بالسيارات، زحام شديد من العائدين والركام أينما تشيح أنظارك: يمينك، يسارك، أمامك، خلفك.

يقول لي أحد الأصدقاء حينما أخبرني عن واقع مخيم جباليا قبل أن أعود: "تتذكرين مشهد تلال القش في أفلام الكاو بوي الأمريكية، المخيم عبارة عن كومة قش هذه"، هو لم يكذب لكن الصورة على الواقع أشد قسوة وثقلاً من القش هذا.

في اليوم الثالث لي بعد العودة إلى المدينة اتصلتُ بصديقتي آمنة التي لم تنزح، بل فقدت من العائلة ما فقدت، والبيت وحتى سيارتها الخاصة، سألتها عن موقعها الجديد، أجابت: في التيه!

كنت أبحث عن وصف حقيقي لما نحن فيه الآن كلما مررنا في موقع أو مكان، فإنّ الصورة لا تتطابق مع صورته في الذاكرة وكأن هذا حقاً هو "إعادة هندسة كل شيء في المدينة" ولم تكن تلك عبارة عابرة كحشو في مضامين الأخبار العاجلة والتحليلات العسكرية والسياسية؛ بل هي هدف قد تحقق في إعادة تشكيل شكل آخر للمدينة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

كنت تائهة حتى في إعادة وصف حالة التيه التي قالت عنها آمنة فصادفني منشور عبر الفيس بوك للصديقة إسلام طعيمة التي فقدت أيضاً من فقدت من عائلة وبيت وبقيت في شمال غزة أيضاً، فكتبت: "شيءٌ ما يشدني نحو طفولتي هذا المساء، ربّما الطريق الرّملي المؤدي إلى بيت عمي، وزوجة عمي وهي تُفصِّل لي أول طقم صلاة. شيء ما يشدني نحو الحارة، انتظارنا لأحد الجيران بأن يقوم بأعمال بناء ليضع جبلاً من الرمل الأصفر، كنا نُحب ذلك، نعتليه ونلعب بالفرجار، أذكرُ أخي خالد وهو متعرّق من اللعب وسعيد. الألعاب الصبيانية، والفتاة الوحيدة في الحارة التي "تسوق بسكليت"، التخباية، التنجاية، كهرب ماس، والشيخ الذي كان يجيء من مكان لا أعرفه بمشْيةٍ خاشعة ليُصلي في جامع الزاوية. صباح العيد، تكبيرات الجوامع، والألعاب عند الدكاكين، ومعايدات الجيران. الطريق إلى مدرستي، المخابز، المطاعم، والأزقة الضيقة التي كنت أحفظها عن ظهر قلب. حنين ما يجرفني تجاه البيت.. بيتي لم يكن أفضل البيوت، لكنه بيتي، المطبخ والممر والصالونات الثلاثة التي كنت أتفف من تنظيفها، غرفة أمي وجلوسي فيها واجمة حين أحزن، وتفهمني دون أن تطلب شرحًا. أريدُ بيتي الآن، وعائلتي كاملة، والشارع، وأولاد الجيران وبناتهم، أريدُ جباليا الحزينة والبسيطة والعتيقة، أريدُ مخيمي".

تلك إسلام التي غادرت المخيم مجبرة في نهاية أيام الحرب أكتوبر 2024 أي بداية بدء العملية العسكرية في شمال غزة تحديداً مخيم جباليا، غابت عنها ملامح المخيم بعد أن عادت منذ اليوم الأول للهدنة، أي أنه ليس بالوقت الطويل جداً، تريد صورة واحدة لمخيمها الذي في خاطرها.

وأنا أشاركها وربما آمنة وغيرنا الكثير من الغزيين الذين عادوا إلى ركام المدينة والذي بدا الأمر وكأنّه مقبرة جماعية للمدينة، حواسنا تائهة تبحث عن صورة متطابقة مع صور الذاكرة أو رفض صورة الواقع الهندسي الجديد الغريب للمدينة. 

 

مواضيع ذات صلة:

من العدوان إلى الشفاء: قصة التعافي من آثار القصف

عنف تحت غطاء الحرب: أوجه صراعات سكان غزة

الحرب على غزة: تحليل أحداث وتداعيات النزاع