بين السرطان والنزوح: أم تروي مأساتها

بين السرطان والنزوح: أم تروي مأساتها

في إحدى زوايا مدرسة "ممدوح صيدم" بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث تحوّلت الصفوف الدراسية إلى مأوى للنازحين، تجلس تحرير زياد محمد حلس (29 عاماً) على الأرض المبلطة، تحاول أن تُشغل يديها بتضميد تعبها النفسي، بينما عيناها تغوصان في وجه ابنتها الصغيرة التي تلتحف غطاءً خفيفاً لا يقيها برد كانون.

تحرير (29عاماً)، التي وجدت نفسها فجأة محاصرة بين شبح المرض والشتات، تروي قصتها التي تعكس ألم كثير من النساء النازحات في قطاع غزة بسبب الحرب التي استمرت أكثر من 15 شهراً.

"كنت أعيش حياة بسيطة وهادئة في منطقة سوق الجمعة بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، قبل أن ينقلب كل شيء رأساً على عقب"، قالت تحرير، وهي تمسح دموعها بصمت. بدأت معاناتها الصحية منذ سنوات قليلة، عندما اكتشف الأطباء وجود ورم في الغدة الدرقية، ورغم طمأنتهم لها بأنه ورم حميد، فإنها خاضت لرحلة علاج طويلة استمرت عامين في مستشفى الصداقة التركي وعيادات الأونروا. كانت تأخذ جرعات الدواء وتواصل حياتها بشق الأنفس، حتى جاءت الحرب في السابع من أكتوبر 2023 لتقلب حياتها رأساً على عقب.

رعب النزوح الأول

في صباح ذاك التاريخ، استيقظت تحرير على صوت انفجارات متتالية، أسرعت لتحضن أطفالها الأربعة، وهي تحاول أن تبتلع القلق المتصاعد داخلها. "منذ اللحظة الأولى، شعرت أن شيئاً سيئاً سيحدث، كأن الحياة بأكملها تُقتلع من جذورها"، قالت بصوت متعب.

قررت تحرير وزوجها النزوح إلى مكان أكثر أماناً، فبدأت العائلة رحلتها الأولى إلى منطقة السامر، ومن ثم إلى المركز الأرثوذكسي في تل الهوى جنوب مدينة غزة. هناك، أمضوا ثلاث ليالٍ ثقيلة، حيث التصقت الأجساد ببعضها البعض بحثاً عن الدفء في قبو المبنى، وسط أصوات القصف الذي لا يهدأ.

تضيف تحرير "في إحدى الليالي شعرت بالاختناق، وبدأ وجهي يتورم. لم أكن أستطيع التنفس، لولا أن أحد الأطباء الموجودين بين النازحين استطاع إنقاذي بمروحة صغيرة".

من أمان مزعوم إلى خطر مستمر

لم تدم إقامة تحرير في المركز الأرثوذكسي طويلاً، إذ تم قصف بوابة المبنى، ليستشهد ثلاثة من النازحين. بعدها أُلقيت منشورات تطالب السكان بالنزوح جنوباً. "كنا نظن أن المكان آمن لأنه تابع للكنيسة، لكن لم يسلم أحد من قصف الاحتلال، اضطررنا للمغادرة، وكانت الطرق مزدحمة ومليئة بالرعب".

استقرت العائلة في النصيرات وسط القطاع داخل مدرسة ممدوح صيدم، حيث وجدت تحرير نفسها بين ثماني عائلات تشارك نفس الصف الصغير. "لم يكن لدينا فراش أو أغطية، كنا ننام على البلاط البارد. الأولوية دائماً للأطفال، لكن البرد كان أقوى من قدرتنا على الحماية".

في خضم النزوح، تدهورت حالة تحرير الصحية. تقول وهي تتنهد بأسى: "ذهبت إلى مستشفى العودة، وهناك أبلغني الطبيب أنني بحاجة لعملية جراحية عاجلة لاستئصال الكتلة المتضخمة في رقبتي، لكنها غير متوفرة بسبب نقص الإمكانيات الطبية والحصار".

وتشرح كيف أصبحت زياراتها للمستشفى شبه أسبوعية لتلقي الإسعافات الأولية، حيث كانت تعاني من ضعف النبض والاختناق. "الدواء الذي كنت أعتمد عليه بالكاد متوفرًا، وحتى عندما أتمكن من الحصول عليه، فهو لا يكفي لحاجتي".

مع حلول ديسمبر من العام ذاته، ازداد الوضع سوءاً في النصيرات، لتُصنف المنطقة "حمراء" بسبب الاقتحامات الإسرائيلية المتكررة. تقول تحرير: "اضطررنا للنزوح مرة أخرى إلى رفح، حيث عشنا أياماً في خيام بلاستيكية لا تقي من البرد. كنت أعتمد على المعلبات لإطعام أطفالي، ما أثر على صحتي بشكل كبير".

تصف تحرير إحدى زياراتها إلى مستشفى رفح، حيث لاحظ الأطباء أن الكتلة في عنقها تضاعف حجمها من 8 ملم إلى 3.5 سم بسبب الظروف القاسية ونقص العلاج. رغم ذلك، لم تتمكن من السفر لإجراء العملية بسبب إغلاق معبر رفح.

أعباء ثقيلة وأمل ضعيف

لم يكن المرض هو العبء الوحيد الذي تحمله تحرير، إذ تضاعفت مسؤولياتها كأم وأيضاً كنازحة في ظل غياب الخدمات الأساسية. "كان زوجي يحاول جلب الطعام والماء، لكن كل شيء كان صعباً. كنت أعيش بين مسؤولية حماية أطفالي ورعاية نفسي، بينما أشعر بأن الحياة تتلاشى من بين يدي".

ورغم كل هذه التحديات، ما زالت تحرير تتمسك بخيط رفيع من الأمل. "أتمنى أن أتمكن من السفر لإجراء العملية الجراحية، والعودة سالمة إلى أطفالي. أريد أن أراهم يكبرون في بيئة آمنة، دون حرب أو نزوح".

ويتعارض حرمان المرضى من العلاج أثناء الحرب على قطاع غزة مع ما ورد، في القانون الدولي الإنساني،  ويؤكد المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، الدكتور أحمد المنظري، أن "الرعاية الصحية ليست هدفا، ولا ينبغي أن تكون هدفا"، داعياً جميع الأطراف المتنازعة إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين، بما في ذلك "المتخصصون في مجال الرعاية الصحية الموجودين في الميدان وسيارات الإسعاف".

بينما تواصل تحرير انتظارها لفتح معبر رفح البري، يؤكد المحامي بلال البكري أن منع الاحتلال الإسرائيلي المرضى من السفر يشكل انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية. "وفقاً للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، يُحظر العقاب الجماعي، لكن ما يحدث في غزة ينافي كل معايير الإنسانية والعدالة".

ومع استمرار الحصار، تبقى قصة تحرير واحدة من آلاف القصص التي تعكس معاناة النساء في غزة، حيث يواجهن الموت البطيء بين شبح الحرب والمرض والنزوح. تقول تحرير في ختام حديثها: "كل ما أطلبه هو فرصة للشفاء، حياة آمنة لأولادي، ونهاية لهذا الكابوس الطويل".

 

مواضيع ذات صلّة: