النسيان كآلية دفاعية: تأثير الحرب على ذاكرة السكان

النسيان كآلية دفاعية: تأثير الحرب على ذاكرة السكان

ارتجف خالد العسكري (34 عامًا) وهو يحارب عقله ليتذكر الحدث الذي أصابه جرّاء قصف إسرائيلي على بيته، حدّق في الأكفان واحدًا تلو الآخر، أيقن أن ذاكرته تعانده، ما الذي حدث؟ أين أنا؟ حتى أدّرك أخيرًا. 

ردّد أسماء العائلة، فأخبروه بوجود مفقود منهم تحت الأنقاض، أعادوا السؤال مرّة أخرى: من أطفالك؟ من المفقود؟ عبثت به ذاكرته وما زالت تعبث، أغمض عينيه محاولًا تذكر اسم طفلته، خاض حربًا أخرى مع الذاكرة، لينطق على حين غرّة: "غالية".

لم يستوعب خالد كيف نسي اسم طفلته التي أسماها على اسم والدته، أرجع نسيانه لهول ما رآه، فقد نجا وخرج حيًا من تحت الأنقاض بمعجزة، رفقة طفله أحمد فقط، فيما اُستشهدت العائلة كلها.

يقول الرجل في حديثٍ لـمراسلة "آخر قصة": "أربع ساعات من الجحيم عشتهم، وأنا أحاول تذكر اسم طفلتي الأقرب لقلبي، كيف نسيتها، لم أنس الاسم فحسب بل بقيت لدقائق أحارب ذاكرتي كي أتذكر وصايا أطفالي، حتى تذكرت، فركضت نحو كفن طفلتي مريم التي أوصتني ألا أغطي وجهها لو ماتت".

كثيرون مثل خالد، رزحوا تحت الأنقاض جرّاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ورأوا أهوالًا في تلك اللحظات التي امتدت أحيانًا لساعات طويلة، منهم مَن أصيبوا بإصاباتٍ اختلفت صعوبتها حسب أوضاعهم، وحيّن نجاتهم مسحت من ذاكرتهم لحظات الحادثة، وآخرون نسيانهم كان مؤقتًا فعادت إليهم الذاكرة بعد ساعات.

يُطلق على النسيان في هذه الحالات، في علم النفس بأنّه فقدان الذاكرة المؤقت، وفقًا لما أشار إليه أخصائي الدكتور عايش سمور الأمراض النفسية والأعصاب، وعادةً ما يزول أثر هذه الحالة من فقدان الذاكرة خلال 6 ساعات، وتختفي تمامًا بعد 24 ساعة. 

فيما يُقال عنّه أيضًا فقدان الذاكرة الشامل العابر هو عبارة عن نوبةٍ مُفاجئة تُصيب صاحبها بحالةٍ من التشوش والارتباك، ومع ذلك يبقى وعيّه وإدراكه في نصابه الصحيح، إذ ينسى المريض وقتها أين هو وكيف وصل لمكانه، وماذا حدث معه قبل وقتٍ قليل، وهذا تمامًا ما حدث مع خالد.

وأكّد الطبيب سمور أنّ ما يعانيه كثيرون في غزة ناتجٍ عن صدمة نفسية عرّفها بأنّها حالة استجابة عاطفية تحدث بعد تعرض الإنسان لحادثٍ مُروِّع أو صادم، فتسيطر عليه حالة من الحزن والإنكار والغضب ولوم النفس، مؤكدًا أنّ النسيان وعدم التركيز في حالة الصدمة هو حيلة دفاعية لا شعورية.

وعن سؤاله حول أبرز الآثار النفسية للحروب على السكان خاصّة الذين تعرضوا للفقد؟ أجاب سمور: "الدخول في صدمةٍ نفسية أعراضها تتمثل في إنكار الحدث، والغضب، وفرط اليقظة لمواجهة الأخطار، والارتباك والقلق، والشعور بالحزن والعجز والذنب، إضافة لعلامات جسدية أبرزها صعوبة التركيز، سرعة ضربات القلب، التعرق، الصداع، والأرق والمعاناة من الكوابيس، واضطراب الجهاز الهضمي، وكثرة النسيان".

عاش الغزيون ظروفًا مريرة إثر الحرب الإسرائيلية، فمن نزوحٍ إلى موتٍ محتّم، وغارات عنيفة، ونوبات قلق لا تنتهي، وتخيلات وهواجس كثيرة لشكل قصفهم وموتهم، وتجويع قسري، ومشكلات نفسيّة كثيرة، ولّدت لديهم شعورًا في بعض الأحيان بأنّهم على حافة الجنون، فأضحى جزء كبير منهم يعاني أزمة تركيز ونسيان مستمرة وظاهرة للعيان.

إضافة إلى ذلك، تسببت مشكلات نقص المواد والسلع الغذائية الأساسية، وعدم السماح بدخول المساعدات الإنسانية، وازدياد معدّلات تلوث المياه بمشكلات صحيّة كبيرة على سكان قطاع غزة، لا سيما تزايد الفقر بنسبة تقارب 100% وانعدام الأمن الغذائي بمعدّل (91%)، ارتفاع معدل الإصابة بخطر سوء التغذية الحادّ.

وتشير تقارير صحيّة دولية إلى أنّ الأهمية الكبيرة للتغذية السليمة التي تُساهم في تحسين وظائف الدماغ وتقوية الذاكرة، بينما يؤثر سوء التغذية بشكلٍ كبير في تدهور الأداء العقلي وزيادة النسيان.

آية حسن (33 عامًا) عاشت ستة أشهر من عمر الحرب، ثم انتقلت للقاهرة، ومنذ إبريل الماضي، وهي تعاني أزمة ملموسة في ذاكرتها حتى أنّها باتت تنسى أحداثًا قديمة، فيما تشعر بالانزعاج حيال الأمر لتأثيره الواضح على حياتها اليومية.

تشكو آية ذاكرتها التي تضعها في مواقف محرجة مع زملائها في العمل. وتقول لـمراسلة  "آخر قصة": "كنت في غزة أعاني الأرق، أنام بشكلٍ متقطع وأصحو على أصوات الانفجارات، مصابة بالصداع بشكل دائم، أنسى أحيانًا، ظننت أنني حين أخرج من بيئة الحرب سأتعافى وتشفى آلامي المبرحة هذه لكنها زادت حدّة عدم التركيز والنسيان".

وقالت الفتاة بنبرة تملؤها الاستياء: "أضحيت أكتب كلمات المرور المهمة لحساباتي الالكترونية على حائط غرفتي، حتى أصل إليها بسهولة، فإذا كتبتها في ورقة سأنسى مكانها حتمًا، كما أنني أخصص دفترًا لمهامي اليومية أكتب فيه كل يوم ما أود إنجازه، في محاولة مني للتغلب على النسيان".

عقّب الطبيب سمور على حالة آية بأنّ ما تشعر به من عدم تركيز ونسيان يعود لحالة الإجهاد النفسي التي تعانيها، معرفًا إياها بأنّها حالة طبيعية وشائعة تنتاب المرء عند التعرّض لضغط ما، أو الإحساس بأنّ العبء ثقيل، وقدرة التحمل ضعيفة، مشيرًا إلى أنّ حالة التوتر العصبي المؤقتة التي تصاحب النسيان هي استجابة طبيعية من الجسم والعقل تجاه الضغوطات الحياتية، وبأنّه لا قلق منها طالما لم تتطور بشكل كبير.

لا يختلف ظرف فارس أحمد (27 عامًا) كثيرًا عن آية، الذي ما زال يرزح في شمال قطاع غزة وقد عايش ظروفًا وأهوالاً مريرة، لا سيما فقد أخيه الأكبر، حتى بات اليوم ينسى أدق التفاصيل اليومية، تُبلغه والدته بقائمة الحاجيات التي تحتاجها للشراء، فيصل السوق وينسى القائمة، ومع تكرار الأمر لأكثر من مرة شعر بحجم المشكلة التي لا يتمكن من السيطرة عليها، فبات يكتب كل شيء على ورقة يضعها في جيبه.

قال فارس في حديثٍ لـ "آخر قصة"، وهو يفرك جبينه إثر الصداع الذي أصابه وهو يتذكر أحد المواقف المحرجة، أنّه في مرة استدان من صديق له مبلغ من المال وبعد فترة وجيزة ذكره صديقه بالمال، فتفاجأ وسأله: "هل حقًا أنا أقترضت منك أم تمازحني لأنّك تعلم ذاكرة السمكة التي لدي".

يأمل الشاب الذي خسر 10 كيلوات من وزنه في ظروف المجاعة التي ألّمت في شمال غزة خلال الحرب، أن تتحسن حالة ذاكرته المعطوبة -كما وصفها- بانتهاء الحرب، إذ يُنكر على نفسه وضع ذاكرته الجديد، ويستذكر كيف كان يحفظ التواريخ والأرقام بدّقة عادة، فيما اضطرته حالته الجديدة إلى تناول بعض المكملات الغذائية التي تساعد في تنشيط الذاكرة لكنّ لم يلمس آثارها بوضوح على تحسن صحته بعد.

ويشير الطبيب سمور إلى أن فقر الدم ونقص مستوى الهيموجلوبين في الدم، وضعف إفراز هرمون الغدة الدرقية، وعدم تناول اللحوم الحمراء، ونقص فيتامين (D) و(B12)، يؤدي إلى النسيان وعدم التركيز وتشتت الانتباه.

كما يؤكَّد سمور أن الآثار النفسية لما بعد الحرب لا تختفي بمجرد انتهاء الحرب، بل يمكن أن تمتد لتصل لاضطراب ما بعد الصدمة الذي قد يستمر لأسابيع أو شهور، حيث يستعيد الشخص خلاله ذكرياته المؤلمة، ويخاف بشدة من تكرار معايشة حالة الحرب.

وقد تصاب بعض الحالات التي تعرضت في الحروب لفقدان عزيز كفارس، بصدمةٍ نفسية تحيلها لحالة الانفصال عن الواقع تمامًا، والضياع، وهو ما يُعرَّف في علم النفس بفقدان الذاكرة الانفصالي، الذي إذا استمرت أعراضه لأكثر من أسبوع يتطلب مراجعة الطبيب.

حنان غسان (44 عامًا)، تشعر بالضجر إثر معاناتها الحادّة أزمة في التركيز تُحيلها لأهوال ما ألّمَّ بها خلال تكرار مرات النزوح، فأصبحت تسأل السؤال أكثر من مرة، وتنسى ما قالته بعد ساعات. 

قالت غسان لـمراسلة "آخر قصة" وقد بدا على ملامح وجهها الوجوم: "النسيان أمر مزعج للغاية، قبل الحرب كنت أتذكر ذكريات من أيام شبابي لكني الآن قد نسيتها، لا أعلم لماذا تدهورت ذاكرتي بهذه الصورة ربما مع سوء التغذية فقد تناولنا ما يجعلنا فقط على قيد الحياة خلال هذه الحرب، وربما مع القلق الكثير الذي مررنا به، حتى الأحداث التي عشناها في بداية العدوان لم أعد أتذكر أغلبها".

وعانت النساء -على وجه الخصوص- من نقص تغذية ملموس جرّاء الحرب، لا سيما الحوامل والمرضعات منهم، فيما أشار تقرير صادر عن مؤسسة REFORM إلى أن 85% من النساء في قطاع غزة يعانين من نقص في الغذاء ذي القيمة الغذائية الضرورية لصحتهن ولأسرهن.

ما الأشياء المهمة التي نسيتها حنان وأثرت فيها؟ تُجيب بصوتٍ منهك: "في إحدى المرات غمرتنا القذائف من كل حدب وصوب، فصرنا نجري على درج المنزل للطابق السفلي، نسيت وقتها ارتداء ملابس الخروج، وجلب حقيبتي التي أحفظ بها مقتنياتي الثمينة كالذهب والمال، جلبوا لي ملابسي لنخرج من البيت، خرجنا ونسيت الحقيبة، وبدأت أبحث بعدها عن مسببات النسيان وعلاجه".

ونصح الطبيب سمور بمجموعة نصائح من شأنها تحسين التركيز وتقليل النسيان، أبرزها النوم المبكر، وممارسة الرياضة وتحديدًا المشي، وممارسة تمارين الاسترخاء التأملية، إضافة إلى ضرورة الاهتمام بالتغذية الصحية، داعيًا الغزيون الذين عانوا أزمات المكوث تحت نيران الحرب منذ 15 شهرًا أن يفحصوا مستوى الفيتامينات في الجسم؛ لأن نقص الفيتامينات أحد الأسباب المهمة الكامنة وراء الإصابة بالنسيان.

 

(*) أسماء مستعارة 

 

مواضيع ذات صلّة:

تداعيات الحرب على صحة سكان قطاع غزة

بدون غذاء ومساعدات فورية: أطفال في خطر

دايت قسري: الحرب أبطلت برامج التخسيس

تأثير العدوان الحربي الإسرائيلي على الصحة النفسية في قطاع غزة

رعاية الناجين: تدّاعيات الحرب على الصحة النفسية