تحوّلات الدلالة في زمن الحرب

تحوّلات الدلالة في زمن الحرب
الكاتب: ضحى الكحلوت

لم تكن المرة الأولى التي تخترق كلمة "البيت" صدري، في مرات متباعدة انطلقت خطواتُ إحدى طالباتي أو صديقاتي مبتعدة لأنها تذكرت شيئاً يجب عليها إحضاره فتقول "شوية هرجع عالبيت أجيبها وأرجع" وهي تقصد الخيمة، فلم يتبقَ من يمتلك بيتاً. 

وفي المرة الأخيرة حين قالت صديقتي أنها نسيت إحضار معطفها وستغيب سريعاً لجلبه من البيت، رفض عقلي -كما حواسي كلها- أن أصمِت صمتَ الرضا والفهم، وخرج اعتراضي مشبوباً: "اسمها الخيمة، الخيمة مش رح تصير بيت". 

كانت طاقة رفضي لتعريف الخيمة بالبيت -حيّنها- تدوي في فراغ الشارع الذي اصطفت به الخيام حتى نهاية أفقه، وظلّت حنجرتي تبتلع صدى الرفض أمام نظرات صديقتي الفاهمة والمتسائلة، لقد حملتُ على ظهري عبء تعريف الأشياء بمسماها الحقيقي في الحرب، إذ اللغة كلها حجر على قلبي ومرادفات التأقلم سوط يحرق حقيقة الأشياء في ذاكرتي، والذاكرة تحتمل عبء الرفض صارخةً: "المعنى أحد أحد".

قسوة الحرب ووطأتها لم تكن جسدية أو نفسية فقط، لقد طالت يدها الدلالات والمسلّمات، رشح منها التأقلم ودخل في الذاكرة يمسّد طريقاً لمدلولات جديدة، وبضرورة قسوة الحرب وصعوبتها لم تُثِر تحولات المعاني انتباه الكثيرين. 

كيف يُعير الفرد انتباهاً للألفاظ التي تخرج منه وهو في طابور ينتظر فيه دوره لدخول دورة المياه مثلاً؟ أو وهو في حالة من تجريب برد العظام؟ البعض يعدُل عن لفظه بعد سكتة قصيرة يراجع فيها قوله، وآخر لا يدرك أنه ابتلع لغة النزوح وما فرض. لا يمكن لأحد إنكار مفردة الآخر أو تعبيره، ولا تعتقد أنك ستتمكن من توجيه نحو مليوني لاجئ إلى الحفاظ على مسميات الموجودات والوقائع والزمان، وهم يعيشون ظرفاً طارئاً منذ عام وأكثر من ثلاثة أشهر؛ حتى كلمة طارئ تبدّلت دلالتها ومعناها في ذهن الغزيّ، فأي طارئ الذي مرّ مرتين على ذكرى ميلادك؟ وسحب أياماً من عمرك بوعود هدوء زائفة.

 

النداء بين العودة العاجلة والمستحيلة

لم تكن أيامنا تخلو من نداءات الأمهات العاجلة، مرة للحضور أمامها مسرعين لتناولنا فطورنا، ومرة ترتب هيئتنا، ومرة نساعدها على أمرٍ ما، ومرات عديدة لأننا تأخرنا في نومنا، نداءات حنونة مهما علَت، ولها نهاية: ما أن ترانا أمامها حتى تنكشف ابتسامتها المختبئة تحت ستار الغضب، لكن تحوّل النداء إلى كابوس مؤلم، وأصبح لغة اعتراض صمّاء، تنادي الأمهات أبناءهنّ والموت يطويهم في ورقته البيضاء، تستخدم صوتها الذي يعرفه ابنها عن ظهر حب، لكنّ من أين يجيء ردّه، أيّ آلة زمن تُعيده راكضاً نحوها؟

كلما سِرتَ في الصفحات الإخبارية باحثاً عن خبر يُطمئنُ الطفل الخائف داخلك، تتعثر بصوت أم في أحد الفيديوهات تصرخ موبّخة ابنها الذي رحل فجأة -ليس رحيل مخططًا له منذ عام وأشهر- "لمين تركتني ورحت؟"، "لسه بدري يمّا"، "ارجعي وبدي أجيبلك اللي بدك ياه"، ليست نداءات أمٍّ فقط إنما الآباء والأخوة والأصحاب، كلها نداءات لا تنتظر رداً، نداءات قلب محتاج، وعقل يكبّله الإنكار والخوف من اللحظة التالية. 

تحوّلت دلالة النداء في اللغة، عندما نادى امرؤ القيس الليل وكتب "يا ليل الصب متى غده، أقيام الساعة موعده" كان منتظراً لقاء المحبوبة، مشتاقاً، الليل لن يجيبه لكن لقاء المحبوبة قد يجيبه، أما نداءات الغزيّ وقد صار المنادى خبراً ماضياً في عجلةِ فقدٍ مستمرة، مَنْ يجيبها؟

في الخيام، النداءات مفتوحة على بعضها، يعرف الناس صرخات بعضهم، يضحكون تارة لأنّهم يعرفون صوت التوعّد المصحوب بصرير الأسنان، ويغرقون في اليأس تارة أخرى حين يسمعون نداء فاقدٍ لمفقوده، يعرفون أن الأيادي كلها ستفشل في احتضان هذا الحزن، فيتركون للنداء مساحته وصداه، علّه يحمل إجابة تشفي!

من سيارة تقلّنا إلى سيارة تنقلنا

ارتبطت ذاكرة الغزي بسيارات النقل ارتباطاً وثيقاً، فهي طريقته في التنقل، سيارة الأُجرة هي الوسيلة الشائعة -كانت- في أيامه قبل الحرب، للمدرسة، للجامعة، للبيت، لبيت صديق، الذهاب لأي مكان لا يحتاج أكثر من الوقوف أمام بيتك مشيراً لوجهتك التي تريد فتجد الخيارات كثيرة، وللسيارات الصفراء "حمولة سبعة ركاب"، ذكرى خاصّة في عقل الغزي، تجربتها الفريدة في نقلك من معبر رفح الجهة الفلسطينية للجهة المصرية وشعورك بأنّك تحمل فراشة في صدرك، ومرّة أخرى وهي تعيدك من معبر رفح إلى بيتك، ذكرى تثير في القلب فرحاً لذيذاً، تمكّنت منه الحربُ وقتلته.

حين اختُصرت حياة الغزي بالنزوح، وحُكم على عمره بالركض حاملاً حقيبته، ترك الكثيرون سياراتهم الخاصة في المخازن والمآرب، واضطروا لتأجير سيارات كبيرة لنقل أكبر عدد ممكن من الأفراد والأغراض، ظناً أنها أيام وتنتهي. 

في جنوب الوادي، اختفت سيارات الأجرة حتى كادّت تنعدم، وانتشرت حافلات النقل الكبيرة، والحافلات التي تستخدم في استيراد المواد والسيارات الصفراء التي حملت طويلاً ذكريات وضحكات ولقاءات، تحملُ الآن خوفاً وطمعاً في الأمان، لن يمر أمامك مشهد السيارة مروراً عادياً وهي تحمل ضِعف طاقتها من الناس وتجر عربة مع حاجيات ركابهم لتنقلهم -بزعم الوعود المضلِلة- للمنطقة الآمنة. 

ستعرف من الوجوه كم مرة عانت الأسرة من مرار التنقل، وترتيب الحقائب والصبر والتحمّل والدموع، من إزالة الخيمة بكل خيباتها ونقلها للسيارة، وبحث أفضل ناحية للبكاء دون أن يراك أحد، والغزي الذي عُجن بالدمع لن يُخفى عليه صوت الدمعة أو شكلها، عند رؤيتك لتلك المشاهد ستقرصك الذاكرة بأصابع اللحظات الحنونة إلى: تنقُلّك الآمن والسعيد في سيارة متواضعة على شوارع غزة التي تبعث على الصفو والأمل.

المكالمة الفائتة بين لفت الانتباه وزيادة القلق

لم تكن هواتف الغزيين ممراً للمكالمات الطويلة يوماً، إما لطارئٍ أو مكالمة استعجال، أو حتى مجرد رنة سريعة للتنبيه دون انتظار الرد، لأن وسائل التواصل الاجتماعي كانت بديلاً رائجاً ومعمولاً به عند الكثيرين، فكان إشعار المكالمة الفائتة مثل نكتة سمجة، لا تضطر للتعامل معها إلا قليلاً، وفي كثير من الأحيان استخدمها الأصدقاء بين بعضهم كتذكير سريع في موعد أو طلب أو رسالة، ضحكة صغيرة يسرقها الغزي من فمّ أيامه المتعبة.

لكن، في الشهر الأول من الحرب على غزة عاش الغزي احتمالات لا نهاية لها مع انقطاع الاتصال الذي استمرّ يومين، قطعت فيها أخبار من بقوا في شمال الوادي عن الذي نزحوا لجنوبه والعكس، وعندما عادت شبكات الاتصال والإنترنت للعمل كان الاتصال ضعيفاً جداً، وتلقى عدد من الناس أخباراً عن فقد ذويهم وبيوتهم، كانت الأخبار تأتي بصوتٍ متقطع وبالضرورة كان الدمع كذلك محاولاً إنكار الخبر ونسبه لعدم وضوح الصوت. 

ومع الوضع الخاصّ الذي يعيشه الغزي نتيجة انقطاع الكهرباء تغيب الهواتف عن أصحابها لساعات في رحلة بحثٍ عن طاقة بديلة لشحن بطاريات الهاتف، وعند عودة الهاتف تجد الشاشة قد امتلأت بإشعاراتٍ فائتة؛ ما يُشعِرك بأنّ حجراً جثم على قلبك، وتمطر على رأسك غيوم احتمالات كثيرة، ولسوء حظك لا يُنصَفُ خوفك لأنّ الرد الآلي: "لا يمكن الوصول إلى الرقم المطلوب حالياً" يسقط على أملك المتبقي فيحطمّه مع اعتذار سابق.

هكذا حوّلت آلة الحرب المكالمة الفائتة –وخاصة المكرر منها- إلى كابوس ومرصد احتمالاتٍ، ووخز للذاكرة، وعلّة لا دواء لها، لن يشفى الغزي منها ولو مرّ على خوفه أعواماً، ومع نجاح وساطات وقف إطلاق النار ربما يمكننا القول أن نزف الغزيَ قد توقف لكنه سيظلُّ يحمل في قلبه مرادفات لا يعرف العالم دلالاتها، وقاموس تمتلكه لغته وتجربته لن يُشرف أو يُعدّل عليها مختص لغوي، لأن التخصص في التجربة ألمّ لم يقاسمنا إياه جار ولا صديق، ولم يرفعه عن ظهرنا أحد، تمكنت الإبادة من الجميع قبل أن تتمكن من أهل غزة ولسانهم، وعلى الرغم من رفضي استسلام الكلمات للمحرقة؛ إلا أن العالم كلّه عليه أن يحتمل لغة الغزيّ بكثافتها وثقلها وما ترمي إليه بعيداً كان أو قريباً.