"لا بد من خيال في عالم ضيق" يضيق العيش أكثر وأكثر في أيام الحرب المستمرة منذ خمسة عشر شهراً، في بداية أيامها كانت حيلتي أن يصبح الخيال منقذاً مؤقتاً من لحظة الخوف التي تنتاب الصغار في ظلّ الهجوم غير المسبوق والأعنف على تاريخ حروب غزة التي شهدناها، كانت اللحظة الأهم تلك التي أشهد فيها على حيلة ابن أخي ذا الخمس سنوات كيف يختبئ تحت غطاءه الأبيض الذي بات يحمله أينما ذهب ليمثل له هذا الشرشف مساحة الاختباء السحرية التي تحوله لشبح لا يراه الصاروخ أو الطائرة، تلك حيلة مقنعة لظن بأنها أيام ستنقضي بعد أيام قليلة.
بعد امتداد الأيام وضغط النزوح كان لدى صغيرين آخرين حيلة أوسع في نمو الخيال في أحد بيوت النزوح غرب مدينة غزة كان أحد صغارها يظن في صوت الزوارق الحربية هي صوت أخطبوط البحر، لتنتقل الحيلة من الخاص إلى العام وتصير حالة أوسع من البيت فهي الحالة التي تتطلب من الجميع الحفاظ على الثبات الانفعالي واستقبال ميزة الخيال هذه بشكل يضمن عدم الفزع في ظلّ العبث العالي خارج البيوت من انفجارات شديدة.
ولم يحدث أن تتحول الزوارق فجأة لأخطبوط بحر أو حتى حوت البحر الأليف، لكنها فسحة الأمان المنشودة في ظلّ انعدام فرص الأمان
صار الخيال ينمو أكثر وأكثر أشبه بشجرة الفاصوليا العملاقة من الحكايات العالمية لتنتقل شيئاً فشيئاً مع التكوين والظروف المفروضة في بيوت نزوح أخرى بجنوب القطاع، فكان تعليق ابنة أختي التي تشاهد صور نزوح الناس نحو الجنوب لتنبت معها أمنية أن تتحول لسلحفاة تمتلك قوقعة قوية وكبيرة يختبئ بها الناس حتى تنتهي الحرب. لكن هذا لن يحدث، ولم يحدث أن تتحول الزوارق فجأة لأخطبوط بحر أو حتى حوت البحر الأليف، لكنها فسحة الأمان المنشودة في ظلّ انعدام فرص الأمان بل والتحايل عليها. بدأ العالم المعاش يضيق أكثر فأكثر فالبيوت صارت خيامًا، والخيام لم تعد تتسع ضيقة على الحاجة. فصارت الحاجة للخيال أمراً واقعاً وملحاً في ظلّ الحرمات وهي مساحة التأمل والتخيل لدى البعض، فما زلت عالقة أمام مشهد التهام الصغار في بيت النزوح التي أقامت فيه صديقة زرتها يوماً في رفح فكانت حيلة أمها على طلب الصغار من الأحفاد للتفاح هي غسل وتجفيف لب (الزهرة) القرنبيط هو التفاح البديل (تفاح الحرب)
تساءلت يومها وقد انقضت فقط أربعة شهور من الحرب: هل نسي الصغار شكل وطعم التفاح؟ الإجابة كانت نابتة على فم ويد الصغار: بديل مناسب للحاجة ونأكله وكأنه تفاح.
لينتقل الأمر في الخيال لصورة محصورة ومكررة في جملة ثابتة من مضاف ومضاف إليه ثابت ولازم فنسمي الأشياء باسمها ويضاف إليها اللازم (الحرب) إذ ينبت الخيال ويصير حاجة أكثر فأكثر كلما ضاقت الحياة وعوالمها المعاشة والمضطرة والمفروضة وقلّت فرصة النجاة وارتفعت الحاجة فيصير الواقع مخيفاً، ويظهر الكبار عاجزين عن تلبية احتياجات المطالبين أو اختراع لفظ آخر بديل للمضاف كصفة جديدة (كداب) ككلمة بديلة للمضاف إليه اللازم (الحرب). في أحد أيام النزوح بدير البلح دعتني جارة إلى خيمتها لأشاركها جلسة نسائية شجعتني بالقول (كلنا نازحين زي بعض) كمحفز للمشاركة بالجلسة صنعت أثناءها (الكنافة الكدابة) وسبقها بساعات مشاركة مع صديق لتناول (البراد) المشروب الشعبي الغزي المشهور لكنه كان في كيس بلاستيكي فبدا وأنه بحاجة إلى كلمة (كداب) هو الآخر. لتصبح كداب هي الصفة لكل شيء وبديل ملائم لإنكار صدق الواقع الفادح فصنع الجميع (كنافة، مقلوبة، وحتى مجدرة) كدابة هي حيلة مجتمعية جديدة للتحايل على ذاكرة الطعم فالصورة تخبرك أنها كنافة أو مقلوبة أو مجدرة لكنها تخلو من أصل الأشياء في ظل استفحال الغلاء بل وشح الموارد وسياسة التجويع المتبعة في حرب الاحتلال ضد غزة.
لتتفاجأ بنهاية جلسة النساء تلك بأن تقول السيدات مجتمعات بأنها كنافة تنافس كنافة (أبو السعود)، وكأننا بدأنا نصدق شكل البديل الذي ينافس ذاكرة الماضي مع الأشياء لماذا؟
لأن فعل الحاجة أقوى من فعل الأمنيات البعيدة.
فالجميع يعرف سر كنافة أبو السعود ومصدر شهرتها وسر مذاقها وما يرتبط به، لكن الجميع بدا يعرف هذه الأيام بصفتها الجديدة والطارئة (الكدابة) وهي حيلة أخرى مصدرها الخيال في ظل اشتداد الألم والوجع واستراق لحظة سابقة لهذا الخراب.
ليصبح الخيال أهم من المعرفة كما قال (أينشتاين) أو حيلة المعذبين في ظل ظروف غير عادية.
الأمر أشبه بصور كثيرة في ذاكرتنا وخبرتنا البصرية كالسجين الذي يحول حائط السجن إلى شباك مرسوم ويطل منه على الحياة خارج السجن رغم إدراكه لحقيقة وواقع السجن ليشكل الخيال ملاذاَ جيداً في ظل استمرار أيام الحرب التي تضيق فيها البدائل أكثر وأكثر ويصير عالمها أشد العوالم ضيقاً.
والحقيقة التي تصلح أن نقتبسها من القول الشعري (ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل) تلك أداة قياس جيدة للحال الغزي فكم من مرة ينام فيها الغزي على أمل انتهاء الحرب وكأن اللحظة التي تقف فيها الحرب سيعود فيها الزمن إلى ما قبل الحرب بساعات لتصير جملة الأمنيات (علواه نرجع) حاجة استقدام الخيال المرتفع إلى الوجود في مستقبل شبه معدومة فيه الظروف الآدمية رغم القناعة الجمعية بأن لاشيء يعود، لكن إيغال الحرب في إحداث واقع أشد خراباً يجعل من الأمل فرصة متخيلة بأن هذه الحرب ستخرج من باب ومعها كل هذا الخراب ونودعها وداع الضيوف.
تلك الحالة الصادمة لدى الخيال الغزي تحول الحديث اليومي المعاش إلى إنكار حدود المعرفة والوصول بالخيال إلى مجرد فسحة. ليصنع لنفسه مساحات صغيرة يتكيف من خلالها للظروف الآنية والطارئة كأمل متخيل بأن انتهاء الحرب سينهي كل شيء فيصنع من فسحه هذه ثقباً لعالم موازي يتمناه. وفق ما جاء في كتاب (العاقل) يوفال نوح هراري. بأن الخيال هو أساس الأفكار الاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، فإن الخيال جزء من إلحاح الحاجة للهروب من الواقع الخرب، فكل النظريات الاقتصادية والاجتماعية تطوّرت وفق خيال الإنسان نحو حاجته لثبيتها وإنهاء واقع معاش ينكر فيه الإنسان وجوده.
وقياساً على التجربة الغزية فالمشهد الذي بدا يظهر في بيئات النزوح يظهر وكأنه حالة تكيف وتأقلم سريع فالحقيقة هو مساحة التخيل التي يحقق من خلالها الغزي مساحة هروبه من ظروف الحرب وما سبقها من ظروف قمع فيها وهدد وحوصر وما زال. فلم تكن تظهر الكافتيريات إلا بعد أن بدأت كمساحة تخيل صغيرة هي مساحة مخصصة للدراسة توفر خدمة انترنت للدارسين والعاملين، ثم ضاقت العوالم أكثر وطالت أيام الحرب لتتوسع المساحات هذه وتغير مسار الحياة في الحرب لتظهر المقاهي والمطاعم تقدم خدمات رفاه سياحية ليصبح الخيال واقعاً جديداً الذي بدأ كردِ فعلٍ طبيعي ليصل إلى حدّ الاستقرار المتخيل في مشهد عبثي في ظلّ أيام الخراب والحرب.
لتشكل هذه المطاعم والكافتيريات مصدر دخل للعائلات النازحة ورفاهية مسروقة من لحظات سابقة.
فتظهر المساحة الصغيرة المضاءة ليلاً في أحد شوارع دير البلح أصغر محافظات القطاع وأشدّ مساحات التكدس فيها مشهداً مختزلاً مختصراً من الزحام بشارع عمر المختار أكبر شوارع مدينة غزة والناس تعج به للسبب نفسه، الفسحة المسروقة من لحظات الحرب. لتخرج الخيالات من رد فعل فردي لشكل تكوين مجتمعي جمعي. وكأن المنشأة المؤقتة هذه ستصير دائمة تعتمد على خيال وحاجة النازح والمقيم وتبدو فرصة جيدة للاستثمار الاقتصادي. وهي بالمناسبة ليست المساحة الأولى والمبتكرة للجمع الغزي فالملاحظ لحالة غزة في آخر سبع سنوات شكلت مساحات الاستثمار الاقتصادي شكلاً مخالفاً لصورة غزة الموسومة بالموت والحصار على الدوام فجاءت الحرب وهدمت مساحة الخيال الأولى فيعود الغزي إلى حيلته الأولى في كل مرة ينغمس في مساحة تخيله كحيلة نجاة وقد ينغمس فيه أكثر وأكثر.
فهل ننجو بالخيال؟
الإجابة قد لا تكون واضحة وبدقة نعم بقدر ما يمكن تأويل الإجابة بأننا بحاجة للخيال لنتجاوز ضيق العوالم المفروضة على واقعنا الغزي.
ولكن علينا الانتباه من أننا نتحول تدريجياً إلى مجموعة من الحالمين في واقع (كابوس)
ليظلّ السؤال عالقًا
هل ننجو بالخيال حقاً؟!
النجاة بالخيال