شجرة الزيتون، التي تحمل رمزية بالنسبة للفلسطينيين، كانت هي الركن الذي اختارته فاطمة سحويل لمبادرتها "حكايات تحت ظلّ شجرة" كراوية لقصص الأطفال.
سحويل صحافية قررت أن تتحول إلى حكواتية، حيث دفعها الشغف إلى ضرورة توفير مساحة أمان للأطفال الذين يعانون من ويلات الحرب لما يزيد عن 15 شهراً في قطاع غزة، وذلك عبر رواية قصصٍ حيّة تشحذ خيالهم وتمنحهم فرصة للتعلم والنمو.
اعتادت فاطمة أن تروي الحكايات لأطفالها في بيتهم الواقع غرب مدينة غزة، لكن بعد نزوحها القسري بفعل الحرب، جابت قصصها قطاع غزة، حتى استقرت في مخيمات النزوح بدير البلح وسط القطاع، لتبدأ بحكايتها الظهور للعلن ولتكون نورًا لأطفال أبرحتهم الحرب ألمًا وجوعاً وخوفاً.
لا يستوجب الاستظلال من لهيب الحرب تحت شجرة الزيتون سوى جلب بطانية صغيرة، وكتاب قصص يجمع بين دفتيه حكايا مشوقة، ثم تبدأ سحويل بسرد القصص على الأطفال الذين يتحلقون حولها بشغف مشكلين لوحةً فنية وسط كومة دمار وخيام.
وعلى الرغم من أزيز الطائرات، وأصوات الرصاص، ظلت الشجرة عنواناً ثابتاً يهتدي إليه الأطفال كلما حان موعد رواية القصة. تقول سحويل إنها بدأت هذه الرحلة الفردية بمشاركة عددٍ قليل من الأطفال من بينهم أطفالها، وسرعان ما جابت حكايتها المخيم الذي خلا من النقاط التعليمية آنذاك، ثم بدأ يتوافد الصغار واحداً تلو الأخر قاصدين "مس فطوم" وحكاية اليوم.
من أين جاءت الفكرة؟، تجيب فاطمة: "شعرت بالاستياء من حرمان الأطفال من التعليم لأشهر طويلة من عمر الحرب، لذا قررت أن أبدأ بفعلٍ بسيط شيئاً يمكن أن يساعد الأطفال في الحفاظ على ما تبقى من براءتهم.
وأضافت في سياق حديثها لـ "آخر قصة": "شرعت في مايو الماضي بمبادرة حكايات التطوعية، لأمنح الأطفال مساحة من التعلم والمعرفة يشعرون خلالها بالأمان، ونبعت فكرتي من قلقي على الأطفال في ظلّ الواقع التعليمي الصعب الذي نعيشه بفعل الحرب، ولأني أؤمن بأنّ التعلم فعل مستمر يجب ألا يتوقف انطلقت بمبادرتي".
ومع استمرار الحرب الإسرائيلية يعيش الأطفال في قطاع غزة واقعًا تعليميًا مريرًا بعد توقف التعليم وتحول المدارس إلى مراكز إيواء؛ مما حرم مئات الآلاف من الأطفال من فرص التعليم المنتظمة، وهو ما أثر سلبا في تحصيلهم الأكاديمي وتشوّه فكرهم وإنحصاره، في المتطلبات اليومية (تعبئة المياه، وجمع الحطب، والبحث عن طعام)، مما شوّه طفولتهم.
وبحسب بيانٍ صدر عن وزارة التربية والتعليم العالي، فقد قتل العشرات من الأطفال خلال الحرب الحالية على قطاع غزة، حيث وصل عدد الأطفال الضحايا إلى 12,820 طالبًا.
تتقاطع تقارير صادرة عن منظمات حقوق الإنسان واليونيسف، مع تحذيرات وزارة التعليم الفلسطينية من خطورة قتل الأطفال وتهديد مستقبلهم، حيث تشير التقارير إلى أن الواقع يفاقم تأثيرات الكارثة الإنسانية التي يعيشها جيل كامل من الأطفال في غزة في ظل غياب أفق وقف إطلاق النار، إذ يعانون انتهاكًا صارخًا لحقوق الطفل لاسيما فيما يتعلق بالحصول على التعليم والحاجة للأمن، وانعكاسات ذلك على نموهم العقلي والنفسي
وفي ظلّ هذا الوضع الصعب، تأتي مبادرة الحكواتية سحويل، لتكون بمثابة ضوء في نهاية النفق، إذ توفر لهؤلاء الأطفال مساحة للتعلم واللعب على الرغم من القصف وخطر القذائف. إذ ركزت في مبادرتها على سرد القصص التعليمية الهادفة للصغار، التي من خلالها يستطيع الطفل تطوير لغته ومعارفه، وإطلاق العنان لخياله، والاعتياد على مطالعة الكتب والقصص لتصبح القراءة فعلًا دائمًا بالنسبة له.
وتؤكد الحكواتية أنّها تحاول مراعاة الفئة العمرية خلال اختيارها للقصص، إذ تختار موضوعات للأطفال من الصف الأول إلى الثالث الابتدائي تختلف عن الفئة الأكبر عمرًا، وفي كل قصة ترويها تبدأ بتعليم الصغار حرفًا جديدًا ومعه كلمة جديدة؛ لتعزيز المهارات اللغوية لديهم.
فيما لاحظت فاطمة خلال اتباعها منهج اللعب لجانب التعلم، تدهور الحصيلة اللغوية عند الأطفال، فلا يعرفون تضاد الكلمات ولا جمعها ولا معانيها، مما حفزها على تطوير مبادرتها، فقررت تكثيف عملية تعلم الحروف وتثبيتها في أذهانهم عن طريق القصة.
لم يكن هدفها التسلية ورواية القصص فحسب؛ بل ترك مساحة للطفل ليعبر عن نفسه ويحكي ما يجول في خاطره، ودمجه في العملية التعليمية بالتدريج، وفق قولها، وعلى الرغم من مواجهتها صعوبة في ذلك إلا أن استمرت في عملها، الذي تطلب فيه من الطفل المشاركة في رواية القصة، وتمثليها، ثم رسمها، وغناء أغنية الحروف الهجائية.
ومع تقدم المبادرة، أصبحت فاطمة أكثر ارتباطًا بالأطفال الذين أصبحوا يأتون إليها في المخيمات، وعرفت نقاط القوة والضعف لديهم، فتحولت من دور الحكواتية للمعلمة؛ لتشرع في تقوية مواطن الضعف سواء في العمليات الحسابية، أو الإملاء في العربية، وكذلك الحروف الإنجليزية.
وورد في تقارير لليونيسف أن التعليم في مناطق النزاع يصبح أكثر خطورة، حيث يُسجل سنويًا العديد من الهجمات على المدارس، مما يهدد حق الأطفال في التعليم الآمن والمستمر، كما تُبرز تقارير أخرى أن الهجمات المنتظمة على مدارس غزة، التي تحولت إلى ملاجئ، تضعها في "الخطوط الأمامية" للحرب، مما يعرض الأطفال لمخاطر إضافية، ويؤثر في حقهم في بيئة تعليمية آمنة، كما يؤثر على تحصيلهم العلمي.
وبالعودة إلى الحكواتية سحويل، فتقول إنها تختار القصص بعناية فائقة، فهي تعتمد على مجموعة المكتبة الخضراء، و"سلسة لوفنكيف"، والتي وجدتها في جنوب غزة بسعر زهيد، إضافة إلى دفاتر تعليمية ومستلزمات للدارسة، مؤكدة أن للأغاني التعليمية دورًا ناجعًا في تثبيت المعلومة في أذهان الأطفال، وفي حوزتها كثير منها مثل أغاني حروف الجر والعطف، والحروف الإنجليزية والعربية، وغيرها الكثير.
ماذا عن الإقبال من الأطفال في المخيم؟ أجابت فاطمة بابتسامة: "يسعدني مشهد الأطفال ولمعة عيونهم وهم يأتون لحضور فعالية اليوم، وعلى الرغم من حجم الخوف الذي يسكنهم من قصف مفاجئ إلا أنهم لديهم إصرار على التعلم، وهذا ينعكس إيجابًا عليَّ، ويحفزني على البحث في قصص مختلفة تحفز خيال الطفل".
ومع ازدياد أعداد الأطفال في مبادرة "حكايات تحت ظلّ شجرة"، بحثت فاطمة عن راعٍ لنشاطها الذاتي، فوقع الاختيار على مركز عبد المحسن القطان للطفل، ليدعم مبادرتها لمدة ثلاثة شهور فقط، عمل خلالها على تغطية النفقات المتمثلة في دفاتر وأقلام وكراسات تعليمية، وألوان، وصلصال، ودفاتر للرسم.
وصل عدد الأطفال الراغبين في الانضمام إلى جلسات "حكايات" 100 طفل، ولأن المكان لا يتسع لهذا العدد، اكتفت فاطمة مجبرة بالعدد الموجود نظرًا لضيق المكان، وتحاول الآن البحث عن مكان أكبر ليتسع للجميع، ودعم من إحدى المؤسسات ذات الصلة؛ لتتمكن من جلب هدايا للأطفال.
ووسط هذا الإصرار على التعليم في ظلّ الظروف القاسية، تستمر فاطمة سحويل في إضاءة دروب الأطفال، آملة أن تجد الدعم الذي يساعدها على توسيع نشاطها ليشمل المزيد من الأطفال المحتاجين إلى المعرفة والأمل.
فاطمة سحويل