تجلس السيدة الفلسطينية أماني رفيق الكفارنة، 36 عاماً، أمام مدخل خيمتها الصغيرة المصنوعة من القماش والخشب في أحد أحياء دير البلح وسط قطاع غزة الذي يعيشه سكانه ويلات الحرب منذ نحو 15 شهراً.
تمسح أماني الحزن عن عينيها بظهر يدها المرهقة، وتقول بصوت مختنق بالأسى: "كنتُ أنا وزوجي تحت الأنقاض (...) صوته كان يملأ المكان وهو يطمئنني، لكنه اختار الشهادة وتركني وحدي أواجه هذه الحياة القاسية".
تعيش أماني، وهي أم لثمانية أطفال، نزوحاً مستمراً منذ أكتوبر 2023، حينما دمرت غارة إسرائيلية منزلها في بيت حانون شمال غزة. تتحدث وهي تحاول استجماع شتات ذكرياتها: "في صباح السابع من أكتوبر، كنتُ أجهز أبنائي للمدرسة، حينما اهتزت الأرض تحت أقدامنا. زوجي، حسن كان في عمله كحارس أمن بجامعة القدس المفتوحة، كان على اتصال دائم معي، يوجهني ويطلب مني تجهيز حقيبة الطوارئ، ثم طالبني باصطحاب الأطفال إلى مسكن عائلتي بوصفه أكثر أمناً".
تشير أماني إلى أنه في اليوم نفسه، ألقت قوات الاحتلال منشورات تطالب السكان بإخلاء بلدة بيت حانون. أُجبرت هي وأبناؤها على مغادرة المنزل، والتنقل من مكان إلى آخر. تقول وهي ترفع عينيها نحو السماء وكأنها تبحث عن إجابة: "بدأنا من منزل صديق في منطقة جباليا، ثم إلى مدرسة إيواء داخل المخيم".
ولأن المدرسة لا يتوفر فيها أدنى مقومات تحضير الطعام، أثرت أماني مرافقة زوجها إلى السوق لشراء الأساسيات، عن ذلك قالت "كان حسن بجانبي طيلة الوقت، لكنه لم يكن يعلم أن لحظاتنا معاً ستنتهي قريباً".
تصف أماني تلك اللحظات المروعة بصوت مرتجف وهي تنظر إلى يديها المشوهتين من الجروح: "كنا في السوق، نحاول شراء جرة غاز وكيس طحين، فجأة دوى صوت انفجار، وجدت نفسي تحت الركام. شعرت بظلام دامس، وبالكاد كنت أتنفس. سمعت صوت حسن يناديني: ’أم رائد، هل أنت بخير؟‘ صوته كان يطمئنني، لكنه كان أضعف مع مرور الوقت".
بصعوبة تمكنت أماني من تحريك يدها اليسرى وتلمس جسد زوجها. تضيف وهي تجهش بالبكاء: "كان جسده ساخناً (...)شعرت أن شيئاً سيئاً سيحدث، بدأ الحطام يضغط على صدرينا، والهواء يزداد حرارة بسبب الحريق الذي اشتعل في المكان. حاولت الصراخ، وسمعت أخيراً صوت رجال الدفاع المدني".
تحول الأمل إلى حزن عميق حينما أخرجوها من تحت الأنقاض ليخبرها المسعفون أن حسن قد فارق الحياة. "لم أصدق حينها، صرخت بأعلى صوتي، وانهرت تماماً، في لحظة واحدة، فقدت زوجي وعمود عائلتي، كما أنني فقدت الإبصار في عيني على أثر الإصابة، حيث شج رأسي ووجهي".
بعد وفاة حسن، تحولت حياة أماني وأطفالها إلى رحلة من المشقة، وبخاصة نتيجة سلسلة النزوح القسرية من مكان إلى آخر. توضح في سياق إفادة قدمتها للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان: "في البداية، ذهبنا إلى مدرسة في النصيرات وسط القطاع رفقة شقيقتي، كان الوضع هناك صعباً للغاية، حيث دورات مياه مشتركة، وشح المياه، والطوابير على الخبز والمساعدات، أطفالي كانوا ينامون على الأرض، وأحياناً في العراء".
وتضيف وهي تشير إلى ابنتها حلا التي تساعدها على الطهي: "أطفالي أصبحوا أكبر من أعمارهم، انظروا إلى رائد مثلاً، الذي كان يحلم بأن يصبح طبيباً، يقضي يومه الآن في صفوف الانتظار على المخبز أو تعبئة المياه، أما حلا وبهاء اللذين لم يتجاوزا الحادية عشر يغسلان الملابس ويعتنيان بإخوتهم. لا طفولة لهم بعد اليوم."
تؤكد أماني أن توقف راتب زوجها بعد استشهاده زاد معاناتهم. "كان راتبه يكفينا ويوفر لنا حياة كريمة، أما الآن، بالكاد نحصل على المساعدات، والتي غالباً ما تكون غير كافية، نحن تسعة أفراد ننام على أربعة أغطية فقط".
تشير أماني إلى المشكلات الصحية التي يعانيها أطفالها، مثل الزكام والسعال الشديد وانتشار الفطريات بسبب قلة النظافة. تقول وهي تعانق ابنتها الصغيرة أميرة ذات العامين: "حتى طفلتي الصغيرة لم تسلم، فهي تعاني السخونة، ونحن عاجزون عن توفير العلاج المناسب لها بسبب قلة ذات اليد وانعدام الخدمات الصحية".
وتواجه هذه السيدة معضلة توفير الغذاء إلى أطفالها، لاسيما بعد الغلاء الفادح الذي تشهده السلع، بما في ذلك السلع الرئيسية كالبقوليات والمعلبات.
في قطاع غزة، تعاني الكثير من النساء النازحات واللواتي يفتقدن إلى المعيل، من تحديات جمة، أبرزها شكواهن من غياب عدالة توزيع المساعدات وصعوبة الحصول على الاحتياجات الأساسية بما في ذلك تحمل تعبات الأعباء المنزلية والمصاريف وتوفير الطعام والشراب.
ووفقاً للقانون الدولي الإنساني، يجب على الأطراف المتنازعة حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات إليهم دون عوائق. لكن على أرض الواقع، تقول أماني: "المساعدات لا تصل إلى الجميع، فنحن نعيش على القليل، وأطفالي بدأوا يفقدون الأمل".
تقول أماني: "لو كان حسن هنا، لكان هوّن علينا كل هذه المعاناة، لكنه استشهد وترك لي حملاً ثقيلاً. وختمت حديثها بتنهيدة تفصح عن ألمها: "نريد السلام. نريد أن نعيش بكرامة، أن يكبر أبناءنا دون خوف أو جوع. هل هذا كثير؟".
قصة أماني ليست مجرد حكاية أم ثكلى، بل هي شهادة على معاناة آلاف العائلات في غزة، التي تقف بين دمار الحرب وأمل في استعادة شيء من حياة الماضي، التي أضحت عالقةً بين الأنقاض.
أماني الكفارنة - غزة