في قطاع غزة، لا تقتصر آثار الحرب على الأرواح والدمار البصري للمباني؛ بل تمتد لتطال الاقتصاد المحلي، إذ يواجه أصحاب المشاريع الصغيرة تحدّيات كبيرة تهدد استمرارية أعمالهم. وفي ظلّ الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، والتي أدت إلى تدمير العديد من البنى التحتية، أصبح هؤلاء الأفراد في قلب أزمة اقتصادية خانقة، إذ لا يقتصر الأثر في الخسائر المادية فقط، بل يمتد إلى الخسائر النفسية والمعنوية، ما يجعل المستقبل غامضًا.
آلاء حمزة صاحبة مشروع لإعداد الحلويات والجاتوهات، افتتحت مشروعها باسم (كارميلا ستور) برأس مال صغير من خلال مدخراتها الشخصية. كان المشروع مصدر الرزق الوحيد لآلاء وأسرتها الصغيرة، إذ تصنع الجاتوهات في المناسبات المختلفة، أعياد ميلاد، عيد أم، حفل تخرج، وغيرها بأشكالٍ جذابة ومذاقات متنوعة ورائعة.
عملت آلاء "32 عامًا" على مشروعها منذ عام 2019 وافتتحت صفحة انستغرام خاصة به، وبدأت تُسوِّق له بنفسها، ومع مرور الوقت، بدأت أم حمزة ترى تطورًا في عملها، وزبائنها يزدادون يومًا بعد يوم، تقول: "كنت أشتري اكسسوارات الكيك وبعض مستلزماتها من الخارج أحيانًا، أتابع أشهر مواقع الويب الخاصة بالجاتوهات حول العالم، كان المشروع كل حياتي".
تأوي آلاء منذ بداية الحرب لدى بيت أقاربٍ لها وسط قطاع غزة، وكانت تحلم قبل الحرب، بإنشاء محل لبيع منتجاتها فيه؛ إلا أن مشروعها وحلمها تدمروا تمامًا. تقول وهي تتنهد حسرةً على ما فقدت: "كان لديّ آلات وأدوات خاصة باهظة السعر، ولكن المكان تعرض للقصف وأنا نزحت ناجية بروحي، لم أستطع أن أصدق ما حدث. كنا على وشك توسيع المشروع عندما جاءت الحرب لتحطم كل شيء".
ليست آلاء فقط التي خسرت مشروعها وتعطلت عن العمل؛ بل تشير تقارير صدرت عن منظمة العمل الدولية، إلى أنّ معدل البطالة في قطاع غزة وصل إلى نحو 80% منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول، مما يرفع متوسط البطالة في أنحاء الأراضي الفلسطينية إلى أكثر من 50%.
على نحوٍ غير بعيد، في مخيمٍ للنازحين جنوب قطاع غزة، يجلس يوسف الغرابلي "52 عامًا" الذي كان يعمل في مجال المقاولات ولديه ورشة صغيرة لصناعة الأثاث والأبواب في منطقة الزهراء. كان يأمل أن يصبح لديه مصنع متكامل لتصنيع الأثاث الفاخر؛ لكن مع تدمير ورشته جرّاء الحرب، وجد نفسه في موقف صعب.
يقول الغرابلي وملامح وجهه يكسوها الحزن الشديد، "كنت أعمل بجد منذ سنوات، وكل ما أنفقته في بناء ورشتي ذهب أدراج الرياح. لا أستطيع حتى أن أعيد بناء ما كان لديّ، بسبب الحرب والظروف الاقتصادية التي تجعل من الصعب الحصول على المواد الأولية."
مع توقف العمل في الورشة، وجد الرجل نفسه عاطلًا عن العمل، ويعيش على المساعدات الإنسانية. يضيف وهو يضرب كفيه ببعضهما: "الأمل في العودة أصبح ضئيلًا جدًا. أصبحنا مجرد أشخاص نسعى للبقاء على قيد الحياة".
الأمر ذاته يعيشه سمير مشتهى، شاب في الثلاثينات من عمره، كان قد افتتح محلًا لبيع وصيانة الأجهزة الكهربائية في مدينة غزة. لم يكن سمير فقط يعتمد على هذا المحل في كسب رزقه؛ بل كانت تلجأ إليه العديد من الأسر؛ بغرض صيانة أجهزة الكهرباء الخاصة بهم. إلا أن الحرب دمّرت محله، وأصبح اليوم يواجه تحدّيات كبيرة في توفير دخل خاص وبأسرته.
يعيش سمير في شقته بمنطقة الرمال وسط مدينة غزة؛ لكنه جرّاء الحرب نزح ما يزيد عن عشر مرات، وفقد محله الخاصّ، وفي ظلّ حالة عدم الاستقرار الحاصلة وخطورة المنطقة من حوله، قد أصبحت فكرة الحصول على قوت يومه صعبة للغاية.
يقول مشتهى: "في السابق كنت أعمل مع أكثر من عشرين عائلة بشكل يومي، وكان لدي دخل ممتاز، لكن اليوم لا أجد ما اعتاش عليه، المحل تدمّر، والأجهزة التي كانت لديّ أصبحت خردة. كان لديّ حلم أن أوسع المشروع، ولكن الآن لا أستطيع التفكير في إعادة بناء شيء تحت هذه الظروف."
تُشير إحصاءات محلية إلى أن 90% من أصحاب المشاريع الصغيرة في غزة تأثروا ماليًا بسبب الحرب، ويواجهون صعوبة في الحصول على تمويل أو قروض لإعادة بناء أعمالهم. ومع ارتفاع معدلات الفقر، تجد الغالبية نفسها في دوامة من القلق والتوتر.
وبحسب رشاد يوسف، مسؤول السياسات والتخطيط في وزارة الاقتصاد الوطني، فإن الاقتصاد الفلسطيني يعاني أزمة منذ ما قبل الحرب بسبب الحصار المالي، وقد تدهور قطاع التجارة بشكل كبير، إذ تشير الدراسات إلى أن حوالي 95% من المنشآت التجارية تأثرت بالحرب. كما بلغ إجمالي الأضرار في البنية التحتية في غزة حوالي 25 مليار دولار، فيما تجاوزت أضرار المنشآت الاقتصادية 2 مليار دولار.
وفي ظلّ هذه الظروف الصعبة، يواصل أصحاب المشاريع الصغيرة في غزة كفاحهم للحفاظ على ما تبقى من أعمالهم، لكن تظل التحديات كبيرة. السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: هل ستتمكن هذه المشاريع من التعافي والعودة إلى العمل، أم ستستمر المعاناة تحت الأنقاض؟
مشاريع صغيرة