
في رقعة أرض ضيقة بدير البلح وسط قطاع غزة، يجثو محمد مصطفى، 48 عامًا، على ركبتيه، يغرس أصابعه في التراب المتشقق بحثًا عن مساحة صالحة لشتلة جديدة. يضع حفنة من السماد الذي حصل عليه بشق الأنفس، ثم يربّت على جذع نبتة طماطم صغيرة تحاول شق طريقها نحو الضوء. الأرض جافة، والنباتات ضعيفة، لكنها تنمو ببطء.
بينما كان منشغلًا، اقتربت منه طفلته ذات العامين والنصف تحمل زجاجة ماء بلاستيكية مقطوعة الرأس، وصبتها بحذر حول النبتة. يبتسم وهو يقطف أول حبة طماطم ويقول: "أول مرة شاهدت فيها صغيرتي نبتة تنمو أمام عينيها، توقفت عن اللعب، حدّقت فيها باندهاش، ولمستها بخفة قبل أن تضحك كما لو أنها اكتشفت عالمًا جديدًا. عندها أدركت أن ورقة خضراء واحدة يمكن أن تعيد لطفولتها شيء مما سرقته الحرب".
يضيف مصطفى: "في ظلّ غلاء النباتات الخضراء في الأسواق وشحها، قررت أن أستغل فسحة الرمل أمام خيمتي وأزرع، فتحسنت نفسية أطفالي مع نمو النباتات الصغيرة". لم تكن التربة عنده مواتية للزراعة، كانت قاسية وفقيرة بالعناصر، لكنه لم ينتظر أن تتحسن الظروف. بادر بزرع ما استطاع، واضطر للسير نحو ثلاث ساعات تحت شمس حارقة حتى التقى برجل عجوز يبيع بعض بذور النباتات، فاشترى منه ما توفر.
لم يكن الأمر سهلًا، فالأرض متشققة والحرارة خانقة والمياه المالحة تهدد أي محاولة للإنبات، كما أن آثار المناخ المتطرف تضاعف صعوبة الزراعة، لكنه رأى فيها فعلًا يتجاوز حدود الغذاء. بالنسبة له، كان كل ورق جرجير ينبت بمثابة إعلان صغير أن الحياة لم تتوقف، وأن النزاع الحاصل لم يقتل الحياة بداخلنا.
التقارير المحلية تشير إلى أنّ أكثر من 80% من القطاع الزراعي في غزة قد تضرر. هذا القطاع، الذي كان يغطي 41% من مساحة القطاع، لعب دورًا محوريًا في توفير الأمن الغذائي، وساهم في تشغيل نحو 6.8% من القوى العاملة. اليوم، تدمرت بنيته التحتية بنسبة تفوق 90%، واختفت مقوماته الأساسية من الأشجار المثمرة إلى التربة الصالحة، في مشهد ينذر بكارثة غذائية وبيئية طويلة الأمد.
صباح رجب، (37عامًا) وأم لثلاثة أطفال، تبتسم وهي تروي كيف بادر ابنها الأكبر، ذو الثلاثة عشر عامًا، إلى جمع القوارير البلاستيكية وتحويلها إلى أوعية زراعة. تقول: "تغيرت نفسية أطفالي تمامًا عندما بدأوا يرون الزرع يكبر أمامهم. زرعنا الباذنجان والنعناع والريحان والطماطم والبقدونس، وكانت لحظات بسيطة لكنّها مؤثرة جدًا في يومنا. أحاول الآن توفير بذور جديدة، لكن لا يوجد".
تضيف وهي تقلّب التربة الجافة بين يديها: "واجهنا صعوبة كبيرة في الحصول على مياه صالحة للري. الماء المتوفر مالح جدًا، لذلك كنا نلجأ غالبًا إلى مياه مفلترة. في مكان نزوحنا السابق شمال غزة ماتت معظم النباتات بسبب الحرارة الشديدة والمياه المالحة وتسرب الصرف الصحي، لكن بعد انتقالنا إلى الزوايدة في وسط القطاع، أصبح الوضع أفضل نسبيًا".
طفلها عدي، المولع بالزراعة، يشارك الحديث مع والدته قائلاً: "كنت أبحث بين البيوت المدمرة عن أوعية بلاستيكية للزراعة وأجلبها لأمي لنزرع بها، ويسعدني أن آكل مما أزرع".
على نحوٍ آخر، تحاول فاطمة إبراهيم، (58 عامًا)، أن تستعيد لحظة بسيطة من الأمان. خلال المجاعة التي ضربت شمال غزة في بداية الأحداث الجارية والمستمرة منذ نحو عامين، حوّلت سطح منزلها إلى أرض زراعية صغيرة. رأت نباتاتها تنمو لأشهر، ثم جاء قرار الاحتلال الإسرائيلي بالإخلاء، واضطرت للنزوح من جباليا إلى محافظات جنوب قطاع غزة.
تقول وهي تمسك عود نعناع في قارورة صغيرة: "كنا نأكل مما نزرع. الجرجير كان أجمل ما زرعت وكنت أفرح عند نموه. زرعت البندورة والفلفل، وحصدت جزءًا منها، وكنت أنتظر أن أقطف أول حبة باذنجان لكن لم ألحق بسبب النزوح. الآن أحاول على استحياء الزراعة بقوارير صغيرة أمام خيمتي".
وفرت السيدة البذور بصعوبة، وبعضها لم يكن متاحًا، بينما اعتمدت على السماد العضوي. نمت بعض النباتات وذبل بعضها الآخر بسبب الحرارة وملوحة المياه وتأثيرات المناخ القاسية، لكنها لا تزال تبحث عن بذور أقوى تتحمل هذه الظروف.
الزراعة هنا لم تعد مجرد نشاط منزلي، بل صارت علاجًا نفسيًا. مختصون يؤكدون أن فعل الزراعة، رغم بساطته، يترك أثرًا عميقًا في ظلّ الحرب والنزوح، إذ يمنح شعورًا بأن الحياة لم تتوقف، ويساعد في تخفيف القلق والتوتر، ويمنح مساحة من الهدوء وسط الخوف المستمر.
المهندس الزراعي ياسر عويدات يصف ما أحدثته الحرب الحالية للقطاع الزراعي في غزة بأنّه سابقة تاريخية في التدمير، من تجريف الأراضي إلى جعل التربة غير صالحة للاستخدام. ويشير إلى أنّ من يعملون اليوم بالزراعة الحضرية يواجهون صعوبات كبيرة، أبرزها غياب الأسمدة والمبيدات الزراعية وأدوات الحماية مثل النايلون؛ مما أثر على الإنتاج وتسبب في توقف التنوع الحيوي.
إلى جانب ذلك، ظهرت في قطاع غزة آفات حشرية تهدد ما تبقى من زراعة، وهو ما يتطلب وعيًا ومتابعة دقيقة من المزارعين، مع أهمية تعزيز الزراعة الذاتية وزراعة أصناف متعددة وفق ما يتوفر من بذور.
لكنّ التحدّيات البيئية تتجاوز حدود الإمكانات الفردية. النازحون الذين يحاولون إنبات نبتة في أرض ملوثة يواجهون آثار أزمة بيئية عالمية لم يتسببوا فيها. المختص البيئي نزار الوحيدي يوضح أنّ التغير المناخي، من ارتفاع درجات الحرارة إلى شُح المياه، جعل الزراعة أكثر هشاشة، وزاد من هشاشتها تلوث التربة بمياه الصرف الصحي ومكبات النفايات، إضافة إلى ملوثات إشعاعية ناتجة عن الحرب.
بدوره، ساهم الخزان الجوفي المالح في تراجع جودة الأراضي، وأدى إلى موت نباتات كثيرة. كما أنّ ندرة المواد البسيطة، مثل الأغطية البلاستيكية، فاقمت المشكلة. يضيف الوحيدي: "التملح الشديد في غزة وتهالك التربة نتيجة التلوث ومياه الصرف الصحي قللا من خصوبتها وأضعفا قدرة النباتات على النمو".
وفي دراسة بحثية أعدها رامي الزايع لمركز رؤية للتنمية السياسية أظهرت أنّ 75% من أشجار الزيتون دُمرت، ومعها 71.2% من الأشجار المثمرة، فيما بلغت مساحة الأضرار في المحاصيل الزراعية نحو 68%، بما يشمل البساتين والخضروات والمحاصيل الحقلية.
أمام هذا الواقع، وصف تقرير صادر عن المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وصف تدمير القطاع الزراعي في غزة بأنه "جريمة حرب" وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
المحامي يحيى محارب يوضح أن تدمير الأراضي الزراعية وهلاك التربة هو شكل من أشكال الإبادة الجماعية، ومخالفة جسيمة للقانون الدولي لما له من تأثير مباشر على سبل الحياة. اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول يحظران تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، كما يحظران تدمير مصادر الغذاء.
وبينما تصنف المادة الثامنة من نظام روما الأساسي استهداف الأراضي الزراعية كجريمة حرب، تنص المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1949 على أن فرض ظروف معيشية قاسية بقصد إهلاك السكان يدخل ضمن أفعال الإبادة. يقول محارب: "استهداف الأرض والزراعة في غزة يندرج ضمن هذا الإطار".
رغم الخراب الذي يطغى على المشهد، تنمو نبتة صغيرة بجوار خيمة أو في قارورة بلاستيكية لتعلن أن الغزيين لم يفقدوا صلتهم بالحياة ولا قدرتهم على الاستمرار. ما يزرعونه ليس مجرد طعام، بل فعل صمود يواجه الحرب وآثار المناخ معًا، وإشارة إلى أن العدالة لا تكتمل إلا حين يُعترف بحقهم في بيئة آمنة كما في حقهم في البقاء.
التعليقات