غزة في مواجهة فيروس مجهول يزيد خطر الموت الجماعي

غزة في مواجهة فيروس مجهول يزيد خطر الموت الجماعي

تجلس نادية جميل (39 عامًا) على طرف فراشٍ أرضي إلى جانب طفلها عبد الله، الذي ارتفعت حرارته بشكلٍ مفاجئ، فيما يشكو من مغصٍ شديد وآلام حادّة في العظام.

تحاول الأم أن تضع على جبهة طفلها قطعة قماش مبللة لتخفف الحمى، بعدما عادت من مستشفى النصر حيث تقطن غرب مدينة غزة قبل ساعات دون جدوى، وتقول بقلق: "لا نعرف ما الذي أصابه، الأطباء يقولون إنه فيروس لا توجد له فحوصات حتى الآن".

تعكس شهادة هذه السيدة جزءًا من واقع أكثر من 2.3 مليون إنسان يعيشون في المناطق المتبقية غير المخلاة من قطاع غزة تحت وقع الحرب، وهي مساحة مكتظة ومحاصرة من الاحتلال الإسرائيلي تُقدّر ببضعة كيلومترات فقط، حيث تحوّلت الخيام والمدارس المدمرة إلى مأوى مؤقت؛ ما يزيد خطر انتشار الأمراض.

منذ أواخر أغسطس الماضي، بدأت تتردد في غزة تحذيرات عن انتشار عدوى مجهولة، تُثير مخاوف السكان الذين يعيشون أصلًا في ظروف صحية وإنسانية متدهورة إثر استمرار الحرب الإسرائيلية للشهر الثالث والعشرين على التوالي.

في الأيام القليلة الماضية، توسعت التغطيات الإعلامية حول هذا المرض غير المحدّد، وتحدثت قنوات إقليمية عن "سلالة جديدة شبيهة بكورونا"، بينما نقلت تقارير عن منظمات محلية، مثل جمعية الإغاثة الطبية، مخاوف من أن يكون هذا التفشي مُقدِمة لأوبئة جديدة بين المخيمات المكتظة في عموم أحياء محافظات قطاع غزة.

في شهادات المرضى عن أعراضٍ غير مستقرة، تتشابه وتتعدد الروايات. أحدهم رامي رجب في العشرينيات من عمره قال: "في البداية أصبت بصداع قوي وآلام في الظهر مع مغص شديد، ثم بدأ الاستفراغ".

بعد يومين من تلك الآلام التي اجتاحت جسد الشاب رجب، خفت الأعراض تدريجيًا، لكنه يشير إلى عدم معرفته إن كانت الأعراض التي أصابته تأتي بنفس الترتيب عند الجميع، ويقول: "الأمر يعتمد على طبيعة الجسم ونوع المتحور".

فيما تروي رواء حمدي (34 عامًا) أم لطفلين أنها عانت من حمى متقطعة وسعال جاف استمر أكثر من أسبوع، تقول: "لم أستطع النوم، وكل مفاصلي كانت تؤلمني. ابني الكبير ظهرت عليه نفس الأعراض تقريبًا لكنه أصيب بإسهال شديد جعلنا نخشى إصابته بالجفاف".

أما مجدي أمين في الأربعين من عمره، الذي أصيب بأعراضٍ مشابهة، فوصف التجربة بأنها "كأن جسدي مصاب بكسور في كل عظامه. آلام في المفاصل والعضلات مع دوخة مستمرة. احتجت إلى المساعدة حتى أتمكن من الوقوف."

هذه الأصوات المتفرقة تعكس حالة من الغموض يعيشها الأطباء والمرضى على حدٍ سواء، فالأعراض متشابهة أحيانًا لكنها تختلف في شدتها ومدتها، ما يربك عملية التشخيص في غياب مختبرات قادرة على تحديد طبيعة الفيروس.

مدير مجمع الشفاء الطبي، محمد أبو سلمية، قال إن المرضى المصابون بهذا الفيروس يأتون بأعراضٍ متكررة، تتمثل في حمى، آلام مفاصل، سيلان أنف، سعال، وإسهال يستمر لأيام، لكنه يشير إلى أنّ أدوات التشخيص غير متوفرة لتحديد طبيعة هذا الفيروس أو سلالته.

تقاطع حديث أبو سلمية مع ما أفاد به مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، الذي قال إن القطاع يواجه "فيروسات لا نعرف مصدرها أو نوعها"، موضحًا أن أغلب الحالات تظهر بأعراض إنفلونزا مصحوبة بآلام في العظام، مغص، واستفراغ.

وأشار البرش إلى أن بعض الحالات التي تصل إلى مستشفيات القطاع قد تكون مرتبطة بمتحورات كورونا، حيث تظهر أعراض إضافية مثل الإسهال أو الاضطرابات الهضمية وآلام أسفل الظهر.

أمام هذه الظروف، لم تعلن منظمة الصحة العالمية حتى اللحظة عن اكتشاف سلالة جديدة في غزة، بينما وفي وقت لاحق، في الخامس من سبتمبر الحالي، نشرت مجلة "BMJ (British Medical Journal)" البريطانية العلمية المتخصصة في المجال الطبي تقريرًا أشار إلى تفشّي التهابات الجهاز التنفسي مثل كوفيد-19 والإنفلونزا في غزة.

وأرجعت زيادة انتشار العدوى إلى ظروف المجاعة التي يعيشها قطاع غزة والاكتظاظ وسوء الأوضاع الصحية وغياب الرعاية الطبية، لكنها لم تؤكد ظهور "فيروس جديد" مستقل. بينما لا يقلل هذا من حجم الخوف الشعبي في بيئة بلا مختبرات متطورة ولا إمكانات فحص، إذ يصبح أي تفشٍ جديد يُنظر إليه كتهديد وجودي.

هذا الغموض يتزامن مع واقع صحي متداعٍ، إذ تؤكد الإحصاءات المحلية والدولية تدمير أو تعطيل أكثر من 94% من مستشفيات غزة، وبخاصة عبر القصف المستمر ونقص الوقود، والعمل فقط على 19 مستشفى جزئيًا أو مرّكزيًا؛ ما يعني أنّ القطاع يعاني من عجز حادٍ في الموارد فحوالي 43-60% من الأدوية الأساسية والمعدات الطبية نفدت من المخزون.

وتنتشر العدوى بسرعة في المخيمات التي تضم مئات الآلاف من النازحين، إذ يُقدّر أن 1.5 مليون نازح في قطاع غزة يعيشون اليوم في خيام مؤقتة، فإنّ الاكتظاظ يجعل أي عدوى أشبه بشرارة قادرة على الانتشار وسط فقر يطاول 90% من السكان.

تقول إحدى العاملات في خيمة تعليمية في خان يونس جنوب قطاع غزة، إن نصف الأطفال في الخيمة ظهرت عليهم أعراض حمى وإسهال متواصل، "لكن لا دواء سوى خافض حرارة بسيط، ولا مكان لعزل المرضى".

مع تزايد الحالات، تتصاعد الحاجة إلى تدخل عاجل من المنظمات الصحية العالمية، ليس فقط لتوفير أدوية أساسية وأجهزة فحص لقطاع غزة، بل أيضًا لإنشاء آلية مراقبة وبائية عاجلة. فغياب التدخل قد يعني أن الفيروس سيظل مجهول الهوية، ما يسمح له بالانتشار بلا رادع في بيئة مثالية لتفشي الأوبئة.

الخوف الحقيقي هنا يكمن في الخطر المضاعف على سكان محاصَرين يواجهون في الوقت نفسه القصف والمرض، وسط إغلاق مستمر يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ومنع دخول الأجهزة الطبية الضرورية؛ الأمر الذي يجعل أي عدوى جديدة تهديدًا مباشرًا للحياة.