داخل صالة رياضية صغيرة في غزة المدمّرة، اختار ناهض حسن (28 عامًا) أن يستعيد جزءًا من حياته بعد توقف مفاجئ إثر الحرب الإسرائيلية، أنهى قبله تسع سنوات من اللعب المتواصل وغيّرت الحرب روتينه كليًا. ومع عودته في يناير الماضي إلى مدينة غزة بعد نزوحه الاضطراري إلى جنوب القطاع ووقف إطلاق النار المؤقت، لم يكن أمامه سوى هذا المكان الذي لم يعد ترفًا، بل ضرورة ومتَنفسًا وحيدًا وسط الخراب.
يبتسم ناهض بمرارة وهو يشرح كيف تغيّرت أولوياته بعد النزاع، فبينما "الناس خارج الصالة يبحثون عن ربطة خبز"، يجد نفسه يعدّ الكيلوغرامات التي يرفعها، وكأنه يعيش في "عالمين مختلفين، واحد جائع مُحطَّم، وواحد صامد ويقف على قدميه".
ويقول إن التمرين لا يلغي عجزه عن شراء علبة تونة بعد خروجه من النادي، لكنه يمنحه شعورًا نادرًا بالتحرر: "أعود للبيت أشعر أنني فرّغت كل الضغوط من داخلي، النادي ليس مجرد رياضة، هو رسالتي لنفسي أنني ما زلت أعيش بشكل طبيعي ولو لساعتين من حياتي القديمة".
وعلى الرغم من هذا الشعور المؤقت بالتحرر، يبقى الخوف رفيق المتدربين داخل الصالات. يصف معاذ محمد (35 عامًا) الأمر بقوله: "كل شيء قد يتوقف فجأة، الكهرباء غير ثابتة، والقصف قد يطال المكان في أي وقت. الملاذ الذي نلجأ إليه قد يتحول إلى هدف، لكننا نأتي رغم كل شيء، لأن الخوف من فقدان الأمل أكبر بكثير".
ويقرّ المتدرب محمد أن أصعب تحدٍ يواجهه هو الغذاء: "الرياضة تحتاج إلى بروتين، وأحيانًا أقف أمام خيار صعب: هل أشتري علبة تونة لأقوي جسدي، أم أوفر هذا المال لعائلتي؟ المشكلة ليست فقط في توفير رسوم الاشتراك، المشكلة في موجة الغلاء التي تطال كل شيء".
الجسد بدوره له حسابات أخرى. خبيرة التغذية بسملة قاسم توضّح أن التدريب وسط المجاعة يشبه تشغيل مركبة سباق بلا وقود: "الغذاء حجر الأساس لبناء العضلات. بدون بروتين، الجسم يستهلك احتياطاته، وفي حالة مجاعة هذا يعني أنه يهدم العضلات بدلًا من بنائها".
وتحذر قاسم من أن الاستمرار في التدريب مع سوء التغذية يعرّض الرياضيين لمشاكل خطيرة في الكبد والكلى، ويضعف جهازهم المناعي، ما يجعلهم أكثر عرضة للأمراض والإصابات المزمنة.
هذه المعضلة لا تواجه الرياضيين فقط؛ بل طالت المدربين أنفسهم. أحمد مسلم (35 عامًا)، مدرب في أحد النوادي وأب لثلاثة أطفال، يتحدث عن تراجع دخله: "قبل الحرب، كان عندي أكثر من 60 مشتركًا، كل واحد يدفع 100 شيكل، وهذا كان يكفيني ويؤمن حياة كريمة لعائلتي. اليوم بالكادّ أغطي نفقاتي الأساسية".
لا يُخفي المُدرب مسلم شعوره بالعجز ويتساءل كيف يمكن أن يطلب من شخص لا يجد خبزه أن يدفع اشتراكًا في النادي؟ لذلك يضطر أحيانًا لتقديم التدريب مجانًا أو الاكتفاء بمبالغ رمزية. لم يعد يرى نفسه مجرد مدرب، بل جزءًا من صراع المتدربين اليومي داخل قطاع غزة. ومع محاولته الاعتماد على دفع الاشتراكات بنكيًا عبر الإنترنت، بقي الدخل ضعيفًا وغير كافٍ لتغطية احتياجاته.
وبذلك يكون قطاع التدريب الرياضي، الذي كان يدر آلاف الشواكل شهريًا عبر الاشتراكات، قد فقد مصدر دخله الأساسي، ما انعكس مباشرة على أسر المدربين وأصحاب الصالات، وأدخلهم ضمن دائرة البطالة غير الرسمية.
وتتفق المدربة ريهام حجاج مع هذا التغيير، إذ ترى أن دور المدرب لم يعد تقنيًا بحتًا، بل رسالة إنسانية مفادها أنّ التدريب ليس مجرد عمل، هو رسالة. وتشير إلى أن الصالات تحوّلت لمساحات للبوح، حيث يشارك المتدربون همومهم وتحدياتهم؛ ما جعل العلاقة بين المدرب والمتدربين صارت أعمق وأكثر إنسانية. والأثقال أصبحت أدوات تعيد لهم الشعور بالسيطرة، وتذكرهم بأن إرادتهم أقوى من كل ما يحيط بهم.
لكن خلف هذه العلاقات الإنسانية يكمن أثر اقتصادي آخر، فغياب التدريبات المأجورة يعني تراجع الطلب على سلاسل مرتبطة بها مثل محال بيع الملابس والأحذية الرياضية، والمكملات الغذائية، والمقاهي والمطاعم التي كانت تستفيد من وجود النوادي في الأحياء.
ومع ذلك فإنّ الأزمة أكبر من حدود النوادي نفسها. فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، شهد القطاع الرياضي دمارًا واسعًا. أكثر من 70% من المنشآت الرياضية في غزة دُمّرت، وبلغت النسبة في بعض المناطق 90%. قُتل أكثر من 410 رياضيين، وتحولت الملاعب إلى أطلال.
وتقدّر إحصاءات محلية أنّ الخسائر المادية المباشرة في القطاع الرياضي بملايين الدولارات، بينما الخسائر غير المباشرة، مثل فقدان الوظائف وتعطّل الموردين، لا تقل قسوة عن تدمير البنية التحتية نفسها.
يوضح الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر أنّ الخسائر لا تقتصر على المباني والملاعب، بل تمتد إلى خسائر غير مباشرة وطويلة الأمد، ويقول: "الرياضة في غزة كانت صناعة تعيل آلاف الأسر. اليوم، توقفت الأندية عن تحقيق الإيرادات، وأصبح اللاعبون بلا عمل. الخسارة الأقسى هي فقدان رأس المال البشري، وتعليق النشاطات الرياضية والاستثمارات".
ويضيف أبو قمر أن سلوك المستهلك في الأزمات يتجه لتأمين الأساسيات، لكن الإقبال على الأندية ليس إنفاقًا كماليًا، بل حاجة إنسانية واجتماعية تستوجب إعادة تأهيلها. فإعادة بناء القطاع الرياضي ليست مجرد مسألة ترفيهية، بل خطوة لإعادة آلاف العاملين إلى دورة الإنتاج، وتقليل الاعتماد على المساعدات، وبناء اقتصاد صمود محلي.
في أحد نوادي مدينة غزة، تحاول ندى صائب، طالبة جامعية في العشرينات من عمرها، أن تستعيد ذاتها. بعد مجموعة من التمارين، تتوقف لالتقاط أنفاسها وتروي أنها ظنت في البداية أنّ أصعب ما قد تواجهه هو خسارة منزلها، لكنها اكتشفت أن الأصعب كان فقدان شعورها بنفسها، إذ بدت فارغة من الداخل، بلا طاقة، وجسدها ضعيفًا مثل كل ما يحيط بها.
غير أنّها تتابع بابتسامة صغيرة: "ولكن هنا بدأت أجد نفسي من جديد. كلما رفعت وزنًا ثقيلًا، شعرت وكأني أرفع ثقلًا عن روحي. الأمر ليس فقط عن العضلات، هو تفريغ نفسي. هنا أثبت لنفسي أنني لست ضحية للأوضاع".
وهذا ما توضحه المختصة النفسية أزهار المغربي، مشيرة إلى أن الإقبال على الأندية هو وسيلة مواجهة إيجابية وليست هروبًا سلبيًا: "الأندية الرياضية صمام أمان. هي مساحة لتفريغ التوتر والقلق، وتحويل الطاقة السلبية إلى جهد بدني، كما تمنح الناس إحساسًا بالانتماء، وهو ما يجعلها ضرورية في أوقات الأزمات".
وبين ضجيج الأجهزة وأصوات الأثقال، يواصل ناهض ومعاذ وندى رحلتهم اليومية. لا يسعون فقط للياقة أو بناء عضلات، بل يبحثون عن استعادة السيطرة على حياتهم في واقع لا يمكن التنبؤ به. في غزة اليوم، لم تعد الرياضة هواية، بل ضرورة لترميم الروح في وجه الخراب، ومفتاحًا اقتصاديًا لإعادة دورة حياة تعطّلت تمامًا منذ اندلاع الحرب.
ممارسة الرياضة في ظل الحرب