شلل النظام ينامي فوضى المساعدات

شلل النظام ينامي فوضى المساعدات

في أحد أحياء مدينة غزة، يقطن حسام إسماعيل (42 عامًا) نازحًا من جديد، بعدما تنقّل بين مناطق عدة منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، إثر تدمير منزله في بلدة بيت حانون شمال القطاع. لم يكن نزوحه مجرد انتقال مكاني، بل مواجهة دائمة مع نظام توزيع المساعدات في غزة، حيث تتكرّر الأخطاء، وتُهدر الحصص، ويغيب التحقق، بينما تُحاصر الحاجة أكثر من مليوني نازح ومقيم في ظل أزمة إنسانية غير مسبوقة.

لا يحمل هويته فحسب، بل أيضًا بطاقة تعريف تخصّ شقيقه الأصغر الذي لم ينزح من شمال القطاع طوال الحرب. وبهذه البطاقة، ظلّ إسماعيل طوال الشهور الماضية يتلّقى مساعدات إغاثية من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "UNRWA" وبرنامج الغذاء العالمي، بينما لم يحصل شقيقه – صاحب الاسم الفعلي – سوى على مساعدتين منذ بدء الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023.

يقول الرجل بصوت أجهدته الهموم: "كنت أحاول إنقاذ أطفالي الخمسة بعد أن خسرت محلي التجاري في بيت حانون بقيمة 10 آلاف دولار، كانت نيتي أن أرسل الأغراض التي حصلت عليها من المساعدات لأخي عندما تهدأ الحرب، لكن الحرب لم تتوقف، وحاجتي كانت تزداد يومًا بعد يوم، فتحوّلت حيلة البطاقة إلى حلّ دائم".

حين كان نازحًا في رفح جنوب قطاع غزة، اكتشف أنّ تلك الهوية تفتح له أبوابًا مغلقة أمام غيره، فحصل بها على ثلاث طرود أسبوعية، من جهات إغاثية متعددة، بينها "الأونروا"، وبرنامج الغذاء العالمي، ومؤسسات محلية.

لم يُطلب منه أي إثبات إضافي لهويته، ولم يُكتشف الأمر حتى بعد عودته إلى شمال القطاع واستمراره في استخدام البطاقة ذاتها. يضيف إسماعيل، الذي لم يُسأل ولو مرة واحدة عن اسمه الحقيقي: "أحيانًا كان أخي لا يستطيع الذهاب للحصول على المساعدة، فأذهب أنا أستلمها باسمه".

المفارقة أنّ شقيقه، الذي كان على علم باستخدام بطاقته، لم تصله خلال الحرب سوى مساعدتين فقط، رغم أنّ سجلات النظام تُظهِر أنّه من المستفيدين المنتظمين. يؤكد إسماعيل أنّ ما فعله لم يكن بدافع الغش، بل محاولة لتأمين الحدّ الأدنى لأطفاله في ظلّ انهيار قدرته الشرائية. يتابع: "استغربت كيف لم تنتبه الجهات لوجود تكرار أو خلل في البيانات".

غياب التنسيق وتكرار المستفيدين

هذه ليست قصة فردية في قطاع غزة، بل واحدة من مئات القصص المكررة خلال الحرب، كما أظهر استطلاع آراء أجرته "آخر قصة". تكشف ثغرات واضحة في أنظمة التحقق ومراقبة التوزيع، وتعكس هشاشة البنية الإدارية للمساعدات في قطاع تتكرر فيه عمليات النزوح، ويشيع استخدام الوثائق المؤقتة دون وجود منصة موحّدة قادرة على تتبّع الأفراد.

بالتوازي مع ذلك، تفاقمت الأزمة الإنسانية في قطاع غزة منذ مارس الماضي بفعل الحصار الإسرائيلي المشدد والانهيار شبه الكامل في الخدمات الأساسية، فيما لم يتجاوز حجم المساعدات المُدخلة 15% من الاحتياج الفعلي، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.

وعلى الرغم من السماح مؤخرًا بإدخال بعض الشحنات ضمن آليات محددة، فإنّ عدد الشاحنات التي تدخل القطاع يوميًا لا يلبّي الحدّ الأدنى من الاحتياجات الإنسانية، إذ لم يصل في بعض الأيام سوى 73 شاحنة فقط، مقابل حاجة تتجاوز 600 شاحنة يوميًا لتوفير الغذاء والدواء والمستلزمات الأساسية لنحو 2.3 مليون نسمة؛ ما يجعلهم عرضة لانعدام الأمن الغذائي الذي تجاوز معدل 91%، ويكشف ضعف الاستجابة الإنسانية مقارنة بحجم الكارثة.

كما أن عمليات الإسقاط الجوي لم تتجاوز بضع مرات، بالكادّ تعادل حمولة شاحنة واحدة؛ ما يعكس هشاشة الإمداد الإنساني مقارنة بحجم الكارثة المتفاقمة، ويثير تساؤلات واسعة حول مدى عدالة توزيع المساعدات الشحيحة، وسط شكاوى متزايدة من السطو على الشاحنات من قبل اللصوص وسوء التوزيع في المؤسسات.

بين الحاجة والتهميش: شهادات من النازحين

في حي التفاح شرق مدينة غزة، يحاول محمد القطاع (32 عامًا) منذ أشهر إثبات وجوده في قوائم المساعدات. يقول بينما يفتح خزانة طعام شبه فارغة: "عائلتنا المكونة من ثلاثة أفراد لا تحصل إلا على مساعدات متقطعة. الجميع يتحدث عن العدالة في التوزيع، لكننا نرى عائلات كبيرة تحصل على مساعدات مضاعفة".

القطاع، الذي يحرص على تحديث بياناته باستمرار، يرى أن التحديث لا يُترجم إلى واقع، فقد طرق أبواب الكثير من المؤسسات الإغاثية المحلية والدولية وتواصل مرارًا؛ طلبًا للمساعدة والحصول على حقّه من المساعدات التي تصلّ، لكن دون فائدة تُذكر، ما يعكس تراجع عدالة التوزيع في نظام يعتمد على بيانات غير محدثة.

على نحوٍ مشابه، يرقد أشرف الشغنوبي (28 عامًا)، من ذوي الإعاقة، في مستشفى الهلال الأحمر الميداني وسط مدينة غزة، بعد أن فقَدَ قدمه إثر قصف إسرائيلي استهدف منتظري المساعدات أثناء محاولته جلب الطعام من شاحنات المساعدات التي أصبحت تصلّ مؤخرًا بشكلٍ غير منتظم عبر معبر "زيكيم" شمالي القطاع.

نقاط التوزيع.. بين سوء الإدارة ومصائد الموت

وتتفاقم المخاطر في نقاط توزيع المساعدات، إذ تشير وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أنّ نقاط توزيع المساعدات تحوّلت إلى "مصائد موت"، حيث قُتل 1,487 شخصًا وأُصيب أكثر من 10,578 آخرين منذ مارس 2025 أثناء محاولتهم الوصول إلى الغذاء في "مؤسسة غزة الإنسانية" الممولة أميركيًا، ضمن حصيلة الحرب التي تجاوزت 9,350 شهيدًا و37,547 مصابًا حتى نهاية يوليو.

وهذا ما أكدته أيضًا تحقيقات صحفية حديثة، إذ وثّقت وقوع آلاف الضحايا خلال محاولاتهم الوصول إلى مساعدات عبر نقاط يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي شمال القطاع. ويتّضح من ذلك أن غياب نظام تنسيق موحّد لتوزيع المساعدات لا يؤدّي فقط إلى التكرار أو التهميش، بل أيضًا إلى تهديد مباشر لحياة المدنيين، ممن يُجبرون على خوض مغامرات قاتلة للوصول إلى الطحين أو المعلبات.

بالعودة إلى الشغنوبي الذي يُعيل أسرته المكونة من خمسة أفراد، لكنّه لم يتلقّ باسم هذه الأسرة أيّة مساعدات، يقول: "كنا نبقى لأيام دون طعام، فاضطررت لاستخدام هوية والدي لاستلام المساعدات أثناء فترة نزوحي جنوب قطاع غزة، على اعتبار أنّه يعيل أسرة أكثر عددًا ويستلم مساعدات بشكلٍ دوري في شمال القطاع".

وعلى الرغم من اختلاف الشكل وفارق السنّ بين الرجل وأبيه؛ غير أنّه استمر خلال تلك الفترة التي امتدّت لنحو عام في استلام المساعدات على اسمٍ غير اسمه؛ ما يكشف ثغرات في آليات التحقق لدى المؤسسات العاملة في توزيع المساعدات، ويجسّد سوء الإدارة وتراخي الضبط الميداني.

من يُراقب توزيع المساعدات في غزة؟

مع استمرار الحرب، وتزايد الضغط على الموارد، تتعمّق أزمة توزيع المساعدات الإنسانية في غزة. تقول وزارة التنمية الاجتماعية إن غياب قاعدة بيانات موحدة وتكرار النزوح يُعقّدان عمليات الوصول إلى الفئات الأكثر هشاشة من النازحين في غزة، ما يتسبب في تهميش البعض وتكرار استفادة آخرين، في وقت تُشير فيه الإحصاءات إلى أن المساعدات الحالية لا تغطي سوى جزء يسير من الاحتياج، وسط غياب العدالة في التوزيع وتفاوت فرص الحصول على الدعم.

بحسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن نسبة كبيرة من العائلات في غزة لا تصلها المساعدات رغم تسجيلها في أكثر من جهة، ما يضيف طبقة أخرى من الفوضى في سجلّات التوزيع.

غياب المنصة الموحدة: بيانات تتكرر ونازحون يُهمّشون

محمد القرم، ممثل وزارة التنمية الاجتماعية في غرفة العمليات الحكومية، يقول إنّ السجل الوطني الاجتماعي، وهو قاعدة البيانات المعتمدة للمنتفعين من برامج الحماية، يُستخدم فقط جزئيًا من قبل عدد محدود من المؤسسات مثل برنامج الغذاء العالمي.

أما بقية الجهات – خاصّة المنظمات الدولية والمحلية غير الحكومية – فتعتمد في الغالب على قوائمها الخاصّة، لأسباب تتعلق بالخصوصية أو اختلاف المعايير. يقرّ القرم بأنّ بعض العائلات تحصل على مساعدات من ثلاث جهات، وأخرى لا تحصل على شيء رغم تسجيلها.

يضيف القرم: "لا ننكر وجود شكاوى تتعلق بتكرار أسماء بعض المستفيدين واستثناء عائلات محتاجة من قوائم المساعدات"، ويفيد أنّه حتى الآن، لا يوجد نظام رقمي مركزي يشمل جميع المساعدات ويمنع التكرار تلقائيًا. ورغم وجود محاولات لتنسيق القوائم بين الوزارة وشركائها، مثل عمليات "الفلترة" المشتركة مع برنامج الغذاء العالمي؛ إلا أنّ ذلك لا يعالج جذور المشكلة، بحسب القرم.

الحاجة إلى تنسيق شامل وعدالة توزيع

أمجد الشوا، نائب مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، يرى أنّ قاعدة البيانات الموحدة يجب أن تستند إلى معايير الاستجابة الإنسانية، فالمشكلة الحالية في توزيع المساعدات، وفق قوله، تشمل غياب قاعدة بيانات محدثة تأخذ بالحسبان الفئات الأكثر هشاشة: الأرامل، والنساء المعيلات، وذوي الإعاقة، والمرضى، والجرحى، والعائلات كبيرة العدد.

ويشير الشوا إلى أنّ المؤسسات لم تُحدّث منذ أشهر سجلات الطلاق والوفاة بسبب انقطاع الاتصالات؛ ما يعرقل وصول كثير من الفئات لا سيما النساء إلى المساعدات التي يفترض أن تكون من حقهن.

ويؤكد أن الاستجابة الإنسانية لا تقتصر فقط على توفير المواد الغذائية، بل تشمل أيضًا مواد النظافة، والمكملات الغذائية، واحتياجات أساسية أخرى، مشيرًا إلى أنّ قطاع غزة لم يتلقَ مساعدات منذ عدة أشهر، باستثناء كميات ضئيلة وصلت ضمن أولويات محددة، ما حال دون تغطية جميع المحتاجين.

بدورها، أوصت الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – "أمان"، في ورقة بحثية صدرت مؤخرًا عنها معنونة بـ: "مدى استجابة مؤسسات المجتمع المدني لمتطلبات العدالة في ملف المساعدات الإنسانية في ظل الحرب على قطاع غزة"، بإنشاء جسم موحّد يضم كافة المؤسسات والمنظمات تحت مظلّة واحدة لضمان التنسيق، ومنع الازدواجية، وتوحيد قوائم المستفيدين.

وائل بعلوشة، المدير الإقليمي لـ "أمان"، يقول إنّ استهداف الاحتلال للمؤسسات الرسمية والأهلية، وتكرار النزوح، جعلا تحديث البيانات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. يردف: "85% من سكان غزة أصبحوا نازحين، وكلهم محتاجون، هذه ليست مجرد مشكلة بيانات، بل انهيار لنظام كامل تحت القصف".

وفي ظلّ تراجع القدرة الحكومية على إدارة الملف الإغاثي نتيجة ظروف الحرب، أشار بعلوشة إلى أن مؤسسات المجتمع المدني، حاولت مواجهة التحديات بالتنسيق فيما بينها، وتمكنت إلى حدّ ما من تحديث البيانات بالتعاون مع المنظمات الدولية، مؤكدًا أن المجتمع المدني يلعب دورًا محوريًا في سدّ الفجوات القائمة.

حين تصبح المساعدة مسألة عدالة لا إحسان، يبدو أن من يحصل عليها ليس دائمًا من يحتاجها أكثر، بل من يُجيد التنقل بين ثغرات الأنظمة. وبينما تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة، يتحول نظام المساعدات الإنسانية إلى ساحة للفوضى والارتجال، وسط غياب تنسيق فعّال وقاعدة بيانات رقمية موحدة.

في قطاع يعاني فيه السكان من انعدام الأمن الغذائي، لم تعد المساعدة ترفًا، بل اختبارًا أخلاقيًا وعدليًا للعالم أجمع. ومع استمرار غياب منصة موحدة لتوزيع المساعدات، ووسط شكاوى متزايدة من سوء التوزيع وسوء الإدارة، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: من يحاسب حين تُهدر المساعدات وتُهمّش الأرواح في غزة؟