جراحون منهكون: أن تمارس الطب وأنت جائع

جراحون منهكون: أن تمارس الطب وأنت جائع

في غرفة العمليات بمستشفى العودة بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، كان الطبيب إيهاب حمد (65 عامًا) يحاول تثبيت يديه المرتعشتين فوق طاولة الجراحة، بينما يتصبب جبينه عرقاً، وتتعالى نبضات قلبه. 

يفعل الطبيب حمد ما بوسعه كي يسيطر على أدوات الجراحة، لكن فجأة احتجبت الرؤية، وكأنّ ضبابًا كثيفًا يحجب عينيه. يقول سألني زميلي بقلق: "دكتور إيهاب، متى آخر مرة أكلت؟" أجبته بصوتٍ مُنهك: "أنا مُتعب.. على ما يبدو من قلة الطعام".

لم تكن تلك المرة الأولى التي يواجه فيها الطبيب حمد الإرهاق الشديد. فبعد ست ساعات متواصلة من العمل، كان جسده على وشك الانهيار. حاول مقاومة الدوار الذي شعر به، وكل ما يخشاه أن يسقط فوق جسد المريض الذي يخيط جراحه. 

"العمل لا ينتهي، والإصابات لا تتوقف"، يقول حمد بعد أن أنهى مناوبته في المحافظة الوسطى، متجهًا إلى شمال القطاع لزيارة عائلته المشتتة. "لم أعد قادرًا على إجراء الجراحات الدقيقة كما يجب. انعدام الطعام، واقتصارنا على وجبة واحدة من الأرز أو العدس، أنهك جسدي."

لم يكن تعب الطبيب جسديًا وحسب. فبين غرزة وأخرى، يتسلل إلى ذهنه همّ عائلته. "أنا مجبر أن أفكر فيهم أثناء عملي. كيف سأوفر لهم الطعام؟ ماذا أفعل؟ حتى النوم صار هاجسًا بالنسبة لي، والتركيز أضحى أمر صعب".

منذ مارس الماضي، يعيش سكان قطاع غزة، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، تحت وطأة المجاعة. فالمعابر مغلقة بفعل الاحتلال الإسرائيلي، والطعام الذي يُسمح بدخوله لا يكفي حاجة السكان، فضلا عن أنه يُسرق قبل وصوله إلى المخازن.

الأطباء، ورغم التزامهم المهني ودورهم الحيوي في إنقاذ الأرواح، ليسوا بمنأى عن هذه المعاناة، فالجوع لا يميز بين عامل وطبيب، أو بين طفل وشيخ، أو بين ذكر وأنثى.

وبينما يُصارع الأطباء الجوع، تتهاوى من حولهم أعمدة النظام الصحي الواحد تلو الآخر. فمن أصل 36 مستشفى رئيسيًا في قطاع غزة، لم يتبقَ سوى 18 تعمل جزئيًا، بحسب منظمة الصحة العالمية، بينما تضررت أو خرجت عن الخدمة 94% من المرافق الصحية، بين قصف مباشر أو توقف بسبب نقص الوقود والإمدادات.

ومع محدودية عدد المستشفيات العاملة في قطاع غزة والخطر المُحدق بالمتبقية منها، تتزايد التحدّيات أمام الأطباء الذين يجدون أنفسهم في سباق يومي مع الخطر والعجز. فوسط القصف المستمر ونقص حاد في المستلزمات الطبية، يضطرون إلى سد الفجوات باستخدام أدوات مُعقّمة أو أُعيد تدويرها، والاعتماد على حلول بدائية ترهقهم ذهنيًا بقدر ما يُنهكهم الجوع جسديًا.

في مستشفى الخدمة العامة وسط مدينة غزة، أنهى طبيب العظام محمد الرنتيسي (67 عامًا) عملية جراحية دقيقة استمرت لساعات، ثم جلس على كرسي قريب، يلتقط أنفاسه بصمت. 

الطبيب المتقاعد منذ سبع سنوات، عاد خلال الحرب إلى عمله وتخصصه النادر في الكسور المعقدة وإصابات الأعصاب. وظلّ ثابتًا أمام أعقد العمليات الجراحية التي وقف عليها في جنوب وشمال قطاع غزة؛ لكنّ ظروف المجاعة الأخيرة التي تعصف بسكان القطاع نالت القليل منه.

"تأثرت بالتجويع مثل باقي الكوادر الطبية"، يقول وهو يمرر يده على جبينه المتعب. "أُعاني من إرهاق شديد أثناء العمليات الجراحية الدقيقة التي تتطلب تركيزًا، لكن فرحة الناس بالشفاء تجعلني أُقاوم رغبتي في الراحة."

كانت لديه مشكلة في عينه أثّرت على أدائه، وتفاقمت حالته بسبب سوء التغذية. خضع للعلاج لاحقًا واستقرت حالته، فعاد إلى عمله بطاقة أكبر، رغم أن جسده لم يسلم من آثار المجاعة، حسبما قال.

يضيف الرنتيسي وهو يحدّق في الأشعة المقطعية لقدم أحد المصابين من خلف نظارته الطبية "أُرهق ذهنيًا بسبب التفكير المستمر في كيفية التعامل مع الحالات المعقدة".

يتابع سرد مألات المجاعة على جسده "في إحدى المرات استعنت بطبيب فرنسي لمناقشة حالة نادرة، ونفّذت رؤيتي خلال الجراحة... الآن أنتظر النتيجة. كل هذا المجهود في البحث والتفكير يستهلك ما تبقى من طاقتي."

ومثل كثير من زملائه، لا يتوقف تأثير المجاعة عند الإرهاق الظاهر فقط، حيث يصبح الضغط الذهني مضاعفًا، وله تبعات فسيولوجية خطيرة.

توضح دراسات طبيّة أنّ نقص التغذية الحادّ يؤثر على وظائف الجهاز العصبي المركزي، ويؤدي إلى ارتجاف الأطراف، وضعف التركيز، وتباطؤ الاستجابة الحركية، ما يجعل أداء العمليات الجراحية الدقيقة في ظل الجوع خطرًا مضاعفًا على المريض والطبيب معًا.

في مستشفى ناصر الطبي المحاصر بخان يونس جنوب قطاع غزة، يدير الطبيب أحمد الفرا (55 عامًا) قسم الأطفال بينما يدوي صوت قصف إسرائيلي لا يتوقف في الخارج. 

قبل أسابيع، استُهدفت غرفة بالمستشفى أثناء جولته على المرضى بغارةٍ إسرائيلية. هرع هو وطاقمه إلى المكان، ليجدوا الفتاة دنيا محسن، التي كانت مصدر أمل للجميع، غارقة في دمائها بعد أن قُطعت ساقاها. "تأثرت نفسيًا جدًا بهذا المنظر"، يقول الفرا، الذي بدا أكبر من عمره بعشر سنوات. "الأصعب هو رؤية أطفال عالجتهم يموتون لاحقًا جوعًا".

يعاني الفرا، مثل زملائه، من صداع مزمن ونوبات نسيان متكررة. "أربعة أشهر وأنا آكل وجبة واحدة غير كافية"، يضيف بينما يمسك رأسه المتألم. ويتابع حديثه: "أحاول مقاومة النعاس لأستطيع العمل، لكن الجوع ينهشنا جميعًا".

ما يعيشه هؤلاء الأطباء اليوم لا يُمثّل حالة فردية، بل يعكس واقعًا عامًا للطواقم الطبية في غزة، كما توثّق تقارير دولية. تقول منظمة الصحة العالمية في تقرير صدر في يوليو 2025: "الكوادر الطبية في غزة تعمل في ظروف تفوق قدرة الإنسان، إذ يهدد الجوع والإنهاك قدرتهم على الاستمرار في إنقاذ الأرواح، وسط نقص تام في الغذاء والوقود والإمدادات الطبية."

ما يزيد التحديدات أمام الأطباء، هو نزوح العديد من الكوادر الطبية مع اندلاع الحرب، إلى خارج القطاع. الأمر الذي عقد من مهام زملائهم الذين يعملون بالحد الأدنى من الإمكانات، ووسط ظروف في غاية التقعيد.  

في قطاع غزة، يقف الأطباء على خط المواجهة الأول، ليس فقط ضدّ تفاقم الإصابات والأمراض، بل أيضًا ضدّ الجوع الذي ينهش أجسادهم. يعملون بأيدٍ مرتعشة، وعقول منهكة، وقلوب مليئة بالخوف على أحبائهم. لكنهم، رغم كل شيء، يواصلون؛ لأنّهم يعرفون أن توقفهم يعني موت المزيد.

 

موضوعات ذات صلّة:

يوميات أطباء مجوّعين يعالجون مصابين بسوء التغذية بغزة

العاشرة | أطباء غزة: "بنموت من الجوع والأطفال بتموت قدامنا"

أطفالٌ يموتون بين ذراعي أمهاتهم الجائعات

هكذا فشلت الأونروا في مواجهة موت الأطفال  

 أطفال حرموا الغذاء: لا طاقة على اللعب

غزة: بيع المصاغ لقاء رغيف خبز

أن تُخبز الحياة في زمنِ الجوع