في زاوية منزلٍ مؤقت بمدينة خانيونس، تحاول علا الخزندار (40 عامًا) أن تمسك ببقايا الضوء الذي لم يسرقه بعدُ مرض أصابها في عينها شبهته بـ "لصّ" يتربص بها. قبل ثماني سنوات، بدأت رحلتها مع الألم بعد زراعة قرنية في عينها اليسرى، تبعتها عمليات جراحية متتالية خلّفت وراءها ارتفاعًا حادًا في ضغط العين.
تقول علا بعد تنهيدة طويلة: "كنت حاملًا بطفلتي الأولى حين أُصبت بجرح فيروسي في القرنية، لكنّني رفضت الدواء خوفًا على الجنين." فكانت تلك اللحظة بداية انزلاقها نحو العتمة، إذ لم تترك المضاعفات لها خيارًا سوى فقدان البصر تدريجيًا في العين اليمنى أيضًا، وكأنما العدوى انتقلت بهدوء بين العينين.
سافرت علا إلى مصر لأشهر، محاولةً كسب معركة ضدّ الزمن، وهناك، شُخّصت حالتها بـ "الجلوكوما"، ذلك المرض الصامت الذي يتسلل دون أعراضٍ واضحة، ولا يُكتَشف إلا متأخرًا فيُسبب فقدان البصر تدريجيًّا وكأنّه يسرقه من المرضى.
وصف لها الأطباء قطراتٍ تُخفّف الضغط، مع فحوصات دورية كفيلة بإبطاء المسار. لكنّ الحرب جاءت لتفكك كلّ محاولات الوقاية، تقول علا بينما يعلو صوت قصف بعيد: "نزحت من غزة إلى خانيونس جنوب القطاع، وعشت في خيمة، وأصبح الطبخ على النار نمط حياتنا، فكلّ هذه الأمور جعلت ضغط العين يرتفع عندي كأنّه ينفجر". فأصبح الصداع ظلّها، وازدادت عصبيتها لكنّ زوجها وأبنائها تفهموا الأمر.
في الأشهر الأولى للنزوح، بحثت علا عن أمل في النقاط الطبيّة المحيطة بالمخيمات. لكنّها لم تجد أطباء عيون متخصصون حيّنها. وعندما عادت إلى مدينة غزة خلال وقف إطلاق النار المؤقت في يناير الماضي، ذهبت إلى طبيبها الذي أخبرها أنّ عينها اليمنى بحاجة إلى عملية جراحية عاجلة، مستحيلة التنفيذ في القطاع.
"لا أجهزة تشخيص، ولا حتى أدوات أساسية في غرف العمليات"، تكرر علا حديث طبيبها إليها بينما تلمس عينها اليمنى وكأنّها تتفحص جمرة ساخنة، فيما تنتظر الآن فتح معبر رفح البري كي تسافر، قبل أن يُنهي هذا المرض على قدرتها الكاملة على الإبصار.
وخلَقت الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ عشرين شهرًا على قطاع غزة البيئة المثالية لتفاقم مرض ضغط العين، فالنزوح يحرم المرضى من المتابعة الطبيّة المنتظمة، كما أنَّ الأدوية المنقذة، مثل قطرات العين تحوّلت إلى منتجات نادرة يصعُب الحصول عليها.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تدمير البنية التحتية الطبيّة حوّل المستشفيات إلى أبنية فارغة من الأجهزة التشخيصية وأدوات العمليات الجراحية. فضلاّ عن الضغط النفسي الناتج عن القصف المستمر والنزوح الذي أصبح عاملاً مساعداً، إذ يرفع مستويات ضغط العين ويُسرِّع من تدهور الحالات.
مراسلة "آخر قصة" زارت مستشفى العيون الوحيد في مدينة غزة، وجلست بين المرضى تستمتع لشكواهم في صالة الانتظار بالمستشفى، التي تتراصّ فيها كراسي بلاستيكية تحمل أجسادًا مُنهكة، معظمهم نساء بين الأربعينيات والخمسينيات، يأتين طلبًا للعلاج لكنّ إغلاق المعابر يَحُول دول توفر الأدوية إذ لا يوجد حتى مسكنات آمنة.
يجلس خالد البشيتي (40 عامًا) في العيادة، يُحدّق بعينه اليسرى الوحيدة الباقية. قبل عشر سنوات، شعرَ فجأة بعدم وضوح الرؤية، وظهور هالات حول الأضواء، وألم واحمرار في العين، وصداع، فيما كشفت الفحوصات له الصدمة بأنّ هناك "مياه زرقاء" في العين تهدّده بالعمى.
منذ ذلك الحين، والبشيتي يحارب لإنقاذ عينيه، لكنّ الحرب جعلت المعركة خاسرة. "النزوح من بيت لاهيا شمال القطاع إلى المحافظة الوسطى صَعّب مهمة وصولي إلى طبيب متخصص في ظلّ الحرب"، يقول بينما يغطي عينه اليمنى التي فقدها إلى الأبد. يُردف: "كنت أستخدم لعيني اليمنى ثلاث قطرات يوميًا، ثم أصبحت قطرة واحدة، ثم لا شيء".
أمّا آمال أبو سيدو (52 عامًا) تقف تنتظر دورها في بهو الانتظار بالمستشفى، وتقول وهي تُمسِك بعكازها: "كنت أستطيع رؤية مَن حولي ابنتي قبل سنة، أمّا اليوم، أحاول تَخيُل وجهها". وقد أخبرها الطبيب أنّ الضغط في عينها تجاوز ٣٠ ملم زئبق، لكنّ لا يمكن إجراء عملية جراحية في ظلّ الإمكانات المحدودة، كما لا تتوفر حتى قطرات كافية. تُعقّب: "الحرب لم تأخذ منزلي فقط، بل أخذت نور عيني أيضًا".
الطبيب ممدوح المصري، استشاري طبّ وجراحة العيون، يوضح أنّ الضغط الطبيعي للعين يتراوح بين ١٠ و٢١ ملم زئبق، لكنّ أي ارتفاع فوق هذا الرقم يعني أنّ ناقوس الخطر دقّ، وتكمُن المشكلة، كما يوضّح المصري، أنّ الخلايا العصبية في العين تموت بصمت.
وعن سبب الإصابة بهذا المرض، فهو إفراز العين سائلًا مائيًّا يحافظ على رطوبة العين، ثم يُصرَّف هذا السائل عبر قنوات. عند اختلال التوازن بين كمية السائل المفرز وقدرة القنوات على تصريف السائل ينتج عن ذلك تراكمه داخل العين مسببًا انسدادًا وضغطًا على أنسجة العصب البصري.
أما عامل الخطورة فيتمثل في التقدُّم في العمر أكبر من عمر 40 سنة. يقول المصري: "بعض المرضى يُولَدون مُصابون بالمرض، والبعض الآخر يكتشفونه بعد فوات الأوان؛ لكنّ النتيجة واحدة وهي عجز بصري لا رجعة فيه".
في غرفة العمليات بمستشفى العيون، يحاول الطبيب حسام داود استشاري طب وجراحة العيون، إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأدواتٍ بدائية. يقول "كان لدينا أدوات متخصّصة لمرضى الجلوكوما، تقدّم أدويةً تُثبّت الضغط"، أما الواقع اليوم فقد اختلف تمامًا، يُردف: "الآن، الأجهزة معطّلة، والأدوية شحيحة، والمرضى الذين كانوا يستخدمون ثلاثة أنواع من القطرات أصبحوا يعتمدون على نوع واحد إن وُجد".
ووفقًا لتقديرات الطبيب داود، هناك ٥٠٠ حالة على الأقل فقدَت بصرها كليًا خلال الأشهر الماضية. الرقم قد يكون أكبر، لأنّ الإحصاءات مُستحيلة في ظلّ تشتت المرضى بين المخيمات والمنازل المُدمَّرة. يضيف داود. "كل يوم بدون علاج يعني اقترابًا من الظلام الدائم".
وبحسب مختصون حقوقيون، يُعدّ منع إدخال الأدوية الأساسية أو عرقلة سفر المرضى للعلاج انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، لا سيما المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تُلزم أطراف النزاع بتأمين الرِّعاية الطبيّة للمدنيين دون تأخير. وفي حالة مرضى الجلوكوما في قطاع غزة، فإن هذا الحصار الطبي لا يُهدد فقط حقهم في العلاج؛ بل يسرق أبصارهم تباعًا، وسط غياب العدالة وصمت المجتمع الدولي.
في صالة الانتظار بمستشفى العيون، الجميع أطباء ومرضى يعرفون الحقيقة المريرة، كلّ يوم يمرّ، تترك الحرب الباب مفتوحًا على مصراعيه لمرض "الجلوكوما" ليسرق عيونًا جديدة، ففي غزة، لا يحتاج هذا المرض إلى كثير من الوقت ليسرق البصر؛ يكفيه أن تُفاقم تدّاعيات الحرب من تأثيراتها.
وبين نزوحٍ مستمر وتعطّل الأجهزة الطبية، يتحوّل العمى للمرضى المُصابون بارتفاع ضغط العين في غزة من احتمالٍ طبي إلى مصيرٍ حتمي، وما بين كل حالة فقدان للبصر، تظلّ الحقيقة واضحة: منع دخول الأدوية أو حرمان المرضى من السفر للعلاج ليس مجرد عجز إنساني، بل جريمة تُرتكب بصمت ضدّ حقّ أساسي في الحياة.
موضوعات ذات صلّة:
مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر
الأطفال المرضى: بين أنفاس الحياة وحدود الموت
أمراض بلا علاج: مهما تماسكتم الجلد لا يكذب
غزة في زمن الحرب.. مرضى الفشل الكلوي عالقون بين الموت
حرب غزة: الأوبئة والأمراض القاتلة التي " تحرق الجلد"
آمال 25 ألف جريح ومريض غزي معلقة بإعادة فتح معبر رفح