مع نفاذ الحليب: 110 طفل يزور المشفى يومياً

مهددون بالموت

مع نفاذ الحليب: 110 طفل يزور المشفى يومياً

في وقت لا يكف الأطفال الرضع داخل مستشفى الرنتيسي للأطفال غرب مدينة غزة، عن الصراخ، يُمسك الطبيب معتبر عبد الله (*) يمسك بعلبة حليب فارغة بيد مرتعشة، ويقول: "هذه آخر علبة من الحليب المُحلّل.. بعدها سيكون مصير الأطفال هنا إما الموت أو الإعاقة الدائمة".

تحتاج هذه المشفى شهرياً 500 علبة من الحليب العلاج، وما يتوفر الآن على وشك النفاذ، دون أي تعويض بسبب الحصار المفروض على القطاع من سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالتزامن مع الحرب القائمة في غزة للشهر العشرين على التوالي.

تحمل السيدة أماني عبد الفتاح (27 عاماً) علبة حليب منتهية الصلاحية، وتقول ليس هناك خيار أخر لإشباع جوع طفلي الذي لم يتجاوز الشهرين. أماني هي أم لطفلين، أكبرهما لم يتجاوز الثلاثة أعوام، وتعاني سوء تغذية ويبدو ذلك جليا على وجهها المقفر، وأطرافها المرتعشة.

في المقابل، يؤكد الطبيب عبد الله أن الأمهات كما المنظومة الصحية المنهارة، أمام تحدي كبير، فالخيار الوحيد الآن هو "التجارب العشوائية بأغذية غير مناسبة أو حليب منته الصلاحية".

ويواجه الأطفال مرضى الجهاز الهضمي، تحدي كبير في ظل نفاذ مخزون الحليب العلاجي الخاص بهم. يقول الدكتور جميل سليمان (مدير المستشفى) كما لا يتوفر الحليب الصناعي المدعم الخاص بالمواليد، إضافة إلى عدم مقدرة النساء على إرضاع أطفالهن بسبب ما يعانونه من سوء التغذية".

يجول الدكتور سليمان بنظره بين الأطفال الذين يبكون بين أذرع امهاتهم وسط عجز واضح عن إيجاد حلول ولو مؤقته، ثم يقول: "الأطباء عاجزون عن اتخاذ ما يلزم إزاء تدهور حالة بعض الأطفال الأمر الذي أدى بالفعل إلى تسجيل حالات وفاة يُرجّح أن أحد أسبابها هو نقص الحليب العلاجي".

وأضاف "نحن الآن نعاني صعوبة في تشخيص حالات مرض الأطفال بسبب نقص المواد الطبية اللازمة".   

ويواجهه القطاع الصحي الذي يعاني انهيارا كاملاً بفعل خروج العديد من المشافي عن الخدمة، عدى عن العجز في الكادر الطبي والأدوية والمستلزمات الطبية وحتى سيارات الإسعاف.

خلف ستارة خيمة في شارع الجلاء غرب مدينة غزة، تجلس أزهار محمد (33 عامًا) تحاول إرضاع طفلتها "حور" (4 أشهر) بمزيج من الماء والسكر، بعد أن نفد الحليب الصناعي. تقول ببكاء: "اشتريت علبة حليب للمرحلة العمرية +6 أشهر بـ 50 دولارًا (بعد أن كان سعرها 5 دولارات).

بعد قامت أزهار بإرضاع طفلتها بالحليب الذي لا يتناسب مع عمرها، أصيبت بالنفخة وضيق التنفس والإسهال الشديد، مما استدعى التوجه إلى المستشفى، هناك نصح الأطباء الأم، "في حال عدم توقف الاسهال بالعودة إلى المستشفى لتركيب محاليل اشباع حتى لا تصاب الطفلة بالجفاف".

تضيف الأم "لا أعلم ماذا أفعل ومن أين أحضر الحليب لطفلتي. حالتها الصحية تتدهور، وأقوم بتخفيف الحليب المتوفر وإرضاعها رغم خطورة ذلك على حياتها.”

وبالغوص في تفاصيل أرقام الضحايا من الأطفال، نجد أنه  سُجل خلال شهر مايو الماضي فقط ما مجموعه 5119 حالة سوء تغذية حاد لأطفال تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و5 سنوات، من بينهم 636 طفلًا يعانون من سوء تغذية حاد وخيم، وهو أخطر أشكال سوء التغذية وأكثرها فتكًا، وفقا لمنظمة اليونيسف.

 كما ارتفعت معدلات الإصابة بسوء التغذية الحاد بنسبة 146% منذ فبراير الماضي، فيما تم إدخال 16,736 طفلًا إلى المستشفيات منذ بداية العام وحتى نهاية مايو الماضي لتلقي العلاج، بمعدل 112 طفلًا يوميًا.

زرنا جناح الخدّج بمستشفى "أصدقاء المريض" وسط مدينة غزة، هناك حيث البؤس يسيطر الوُجوم على الأمهات، يُظهر لنا الممرضة ليلى سميح (*) طفلاً يزن 1.8 كغم فقط، قائلاً: "هذا الطفل يحتاج حليب (LF - Lactose-Free).. نضطر لإعطائه حليب أطفال عادي فيُصاب بإسهال حاد، ثم نضطر لإعطاء محلول إشباع لتجنب الإصابة بالجفاف".

تقول الممرضة سميح "للأسف نحن نرى الأطفال يموتون ونحن عاجزون عن تحريك أي ساكن، نشاهد عياناً ما تقوم به الأمهات من تجارب (ماء وسكر) لإرضاع أطفالهن ونعلم خطورة ذلك على صحتهن لكنهن معذورات فليس أمامهن من خيارات".

في جولة داخل صيدليات غزة، تبين أن علبة الحليب الصناعي (المدعّم) تُباع بـ 10 أضعاف سعرها (من 5 إلى 50 دولارًا). الصيدلية سندس محمد (33 عامًا) قالت: "آخر شحنة دخلت قبل 4 أشهر ونحن لدينا يومياً مئات الأطفال يولدون ومن الطبيعي نفاذ الكميات بسبب الحصار ومنع إدخال الحليب عبر المعابر".

تعرض عبوة حليب على زبون جاء يستجدي الشراء، لكنه صدم بالسعر وعاد محبطاً بخفي حنين، تبرر الصيدلانية هذا الغلاء إلى تجار الحليب الذين يوردونها للصيدليات بأسعار مضاعفة.

تقر بخطورة الأمر لكنها قالت ببرود "عندما يتوفر داخل الصيدليات التجارية بالمجان، حتماً سنقدمه بالمجان للزبائن لكن ليس من المقبول أن نخسر، ونعلم الحالة الإنسانية وأن بعض الأهالي يبيعون مقتنياتهم لشراء علبة واحدة، لكن السبب فيما يجري هو الاحتلال، ويجب محاكمته".

ساقتنا البحث للتعرف على دور المؤسسات الخيرية تجاه دعم وتعزيز صمود الأمهات المرضعات في هذه المحنة، للاستماع إلى أمنية عامر (*) وهي متطوعة في جمعية خيرية، والتي روت لنا تجربة التوزيع الذي يصفه البعض بأنه "غير عادل".

"نوزع يوميًا 10 علب فقط، هذا عائد إلى طبيعة التبرعات التي نتلقاها وما هو متوفر في السوق السوداء، ومع ذلك نختار الأكثر احتياجًا عبر نظام القرعة".  تقر أمنية "لا شك أن هناك بعض الخصوصيات، لكن ذلك لا يعني أن ننتظر أن يموت الطفل، بكل تأكيد الرضع في الظروف الصحية الخطرة هم الأولى في توصيل الحليب لهم".

على الصعيد القانوني، عدّ المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، منع قوات الاحتلال الإسرائيلي إدخال المواد الغذائية والدوائية، بما فيها الحليب العلاجي المنقذ للحياة، بأنه "انتهاكًا صارخًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، ويمثل جريمة حرب بموجب المادة 8 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، التي تُجرّم استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، بما في ذلك عرقلة وصول المواد الأساسية لبقاء السكان المدنيين".

وطبقاً لبيان تلقت "آخر قصة" نسخة عنه، فإن المركز أكد على أن المنع يشكل خرقًا فاضحًا للقرارات الملزمة الصادرة عن محكمة العدل الدولية، والتي قضت بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بشكل فوري ودون عوائق.

بذلك يوضح المركز أن "هذه الأفعال تُعد جزءًا من سياسة ممنهجة للتجويع والإبادة البطيئة، تندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية وفقًا للمادة 6 من ميثاق روما، كما تندرج ضمن أفعال الإبادة التي حظرتها المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، والتي تجرّم فرض ظروف معيشية يُقصد بها التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية".

ورغم هذا الخرق القانوني الواضح، لكن لا أحد يحرك ساكن أمام أطفال يموتون يومياً، أو كما قالت إحدى الأمهات التي كانت تنحب بصمت داخل حضانة الخدج، تدعى عبير، "عندما يُحرم الرضيع من حليبه.. لا يكون الموت نهاية، بل شهادة ميلاد جديدة للضمير العالمي الميت".