أربعون في المئة فارقوا الحياة: مأساة مرضى الكلى

 أربعون في المئة فارقوا الحياة: مأساة مرضى الكلى

في زاوية من زوايا منزله المتواضع في حي تل الهوى جنوب مدينة غزة، يجلس وائل سكيك، المُصاب بمرض الكلى، يحاول أن يجد وضعية مريحة لجسده المتعب، لكن الألم لا يتركه. يداه ترتجفان وهو يُقلِّب كيس الأدوية الفارغة تقريبًا، بينما تنظر عيناه الغائرتان إلى السقف كما لو كان يبحث عن إجابةٍ لسؤال لا يُجاب. 

قبل الحرب، كان سكيك يخضع لجلسات غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعيًا في مستشفى الشفاء، كل جلسة تستغرق أربع ساعات، وكانت هذه الجلسات بمثابة طوق نجاة يُحافظ على توازنه. 

لكنّ منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، وما تسببت به من تدمير المستشفيات وإغلاق الأقسام وخروج المشافي عن الخدمة، تحوّلت حياة هذا الرجل إلى صراعٍ للبقاء فقط.

يقول سكيك بصوتٍ واهن: "لم أعد ذلك الشخص القادر على المشي بسهولة، أو حتى حمل أبسط الأشياء". وإبان الحرب وتدّاعياتها على القطاع الصحي اضطر إلى الانتظار أشهرًا قبل أن يتمكن من العودة إلى جلسات الغسيل، لكنها _مع الأسف_ لم تعد كما كانت.

في التفاصيل يوضح: "بدلًا من 12 ساعة أسبوعيًا، أصبحتُ أحصل على أربع ساعات فقط، موزعة على جلستين". وتسبب هذا التغيير في اختلال كبير ظهر على صحة سكيك، إذ عانى من تورمٍ في جسده، وصعوبة في التنفس؛ بسبب تراكم السوائل على رئتيه، وآلام لا تنتهي. وبينما يُحذره الأطباء من أن جسده لم يعد قادرًا على تحمُّل هذا النقص، يقف سكيك عاجزًا أمام الخيارات المحدودة.

وفيما توصي المعايير الدولية بـ ثلاث جلسات أسبوعيًا (12 ساعة كحد أدنى) للمحافظة على استقرار الحالة الصحية، يوجد في قطاع غزة مرضى يحصلون على جلستين فقط (4 ساعات أسبوعيًا)، مما يعرِّضهم لمضاعفاتٍ خطيرة.

يوجد في قطاع غزة أربع مستشفيات فقط حاليًا تُقدّم خدماتها الطبيّة لمرضى الكلى، هم مستشفى الشفاء والرنتيسي شمالي القطاع، وناصر وشهداء الأقصى جنوبي القطاع. وذلك بعدما خرجت بقية المستشفيات عن الخدمة وتدّمر مستشفى نوره الكعبي الذي كان مخصصًا لعلاج مرضى الكلى قبل الحرب وجهزًا بكافة الأدوية والأجهزة اللازمة.

يتناقض هذا الواقع مع ما تُشدّد عليه التوصيات الطبيّة الدولية بـ توفير أجهزة غسيل كلى كافية بنسبة مريض واحد لكل جهاز لتجنب الاكتظاظ، إذ يوجد في قطاع غزة 4 مستشفيات فقط تعمل من أصل 24، مع نقص كبير في الإمكانات؛ ما يُظهر الفجوة الكارثية بين ما يُفترض توفيره للمرضى وفق المعايير الدولية، والواقع المأساوي في غزة.

أدى هذا إلى تكدّس أعداد المرضى أمام المشافي المحدودة والتي تعاني من نقص حادّ في الأجهزة والوقود، وطوابير طويلة من المرضى الذين ينتظرون دورهم في غرف الغسيل. البعض يضطرون إلى السير لساعات للوصول إلى المستشفى، رغم أن أجسادهم لا تتحمل المشي لخطوات قليلة.

مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة، الذي كان يستقبل العشرات من مرضى الفشل الكلوي، أصبح يعمل بأقل من نصف طاقته. غازي مرتجى، مدير قسم الكلى في المستشفى، يصف الوضع بأنّه "كارثة بكل معنى الكلمة". الأجهزة تعمل بالحدّ الأدنى بسبب نقص الكهرباء، الأدوية الأساسية نفدَت، واحتياجات المرضى في تزايد بينما تقلّ الموارد.

"لدينا 240 مريضًا مُصابًا بالفشل الكلوي في المستشفى، وكل واحد منهم يحتاج إلى رعاية صحيّة مستمرة، لكنّنا نعجز عن توفير حتى الحدّ الأدنى من احتياجاتهم الأساسية جرّاء الإغلاق ومنع دخول الأدوية والوقود"، يقول مرتجى.

وأضاف أنّ مرضى الفشل الكلوي يعانون من مضاعفات خطيرة بسبب نقص جلسات الغسيل، مثل تراكم السموم والسوائل على الرئتين وارتفاع نسب البوتاسيوم، في ظل شحّ الأدوية وتقليص ساعات العلاج. كما أنّ أعداد المرضى تفوق قدرة المستشفيات، حيث يصل العدد في مستشفى الرنتيسي إلى 75 مريضًا، وفي جنوب قطاع غزة بمستشفى ناصر وشهداء الأقصى إلى 300 مريض.  

وطالب مرتجى منظمات الصحة العالمية بالتدخل العاجل لتوفير أجهزة غسيل الكلى والوقود اللازم لتشغيلها، وإصلاح الوحدات المتضررة، فضلًا عن توفير المستلزمات الطبية والأدوية المنقذة للحياة.

الأرقام الواردة عن الإحصاءات الرسمية تُشير إلى واقع أكثر سوداوية. وفقًا لوزارة الصحة في غزة، كان هناك 1100 مريض فشل كلوي مسجل قبل الحرب، لكن العدد انخفض إلى حوالي 628 بعد أن فقدَ 472 مريضًا حياتهم أيّ ما نسبته 41% من المرضى، وذلك بسبب انقطاع العلاج أو نقص الأدوية أو عدم القدرة على الوصول إلى المستشفيات. 

بعض هؤلاء المرضى، مثل أم مصطفى الجمل (62 عامًا)، لم يتمكّنوا من الصمود طويلًا. توفيت بعد أشهرٍ من المعاناة المتواصلة، تاركةً وراءها ذكريات مؤلمة لابنها محمد، الذي يتذكَّر كيف تحوّلت أمه من امرأةٍ قوية إلى جسدٍ هش لا يقوى على الحركة. " ُصيبت بمضاعفات حادّة جرّاء تقليص عدد جلسات غسيل الكلى"، يقول محمد.  

لثمانية أشهر متواصلة من عمر الحرب، ظلّت أم مصطفى تقطع الطريق بين منزلها المتواضع في رفح جنوب قطاع غزة ومستشفى أبو يوسف النجار، في رحلة شاقة عانت خلالها من التهابات حادّة لم تجدّ لها علاجاً، وانتفاخ مُزمن في جسدها النحيل، وتجمع خطير للسوائل على رئتيها، حتى اضطر الأطباء في النهاية إلى بتر قدمها اليمنى بعد إصابتها بغرغرينا لم يعد هناك أدوية كافية لعلاجها. 

ومع شُح الأدوية وندرة الغذاء، اضطرت أم مصطفى إلى الاعتماد على البقوليات بعد أن أصبح الطعام الصحي رفاهية بعيدة المنال، إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة بين ذراعي ابنها محمد، الذي يحتفظ اليوم بذكراها في صورة أخيرة تروي قصة معاناة تنتهي بشهادة وفاة تذكر "الفشل الكلوي" سبباً للوفاة، بينما تكشف الوقائع أن الحرب والحصار كانا السبب الحقيقي الذي أنهى حياتها.

ماتت تلك السيدة وما يُقارب نصف المرضى على الرغم من أنّ القانون الدولي ينصّ على أحقية المرضى في تلّقي العلاج، لكنّ المحامي يحيى محارب يوضح أنّ هذه القوانين أصبحت "حبرًا على ورق" في غزة. 

"تدمير المستشفيات، منع وصول الأدوية، حرمان المرضى من العلاج، كلها جرائم حرب بموجب المادة (16) و(17) في اتفاقية جنيف، والمادة (8) في ميثاق روما"، يقول محارب. لكن في ظلّ غياب أيّ محاسبة دولية فعلية، يستمر المرضى في الموت بصمت.  

اليوم، يعيش وائل سكيك وأمثاله في دوامة من المجهول. كل يوم هو تحدٍ جديد: تحدٍ لاجتياز الطرق الخطرة إلى المستشفى، تحدٍ لاقتناء حبة دواء نادرة، تحدٍ لتحمل آلامٍ لا هوادة فيها. "في أحلك اللحظات، يخطر لي أنّ الرحيل ربما يكون راحة"، يهمس وائل بعينين تغشاهما الإعياء، ثم يضيف بصوتٍ يُخالطه شيء من التحدي: "لكنني لن أستسلم، سأظل أقاتل حتى آخر نفس".

في قطاع غزة المحاصر، لم يعد أمام مرضى الكلى سوى خيارين مرّين: إما معاناة يومية تحت وطأة نظام صحي منهار، أو موت بطيء بسبب انعدام العلاج، في مشهد يُجسّد فشل العالم في حماية أبسط حقوق هؤلاء البشر.

 

موضوعات ذات صلّة:

أمراض بلا علاج: مهما تماسكتم الجلد لا يكذب

أدوية منتهية الصلاحية: الخيار الأخير لمرضى غزة

وفاة ما يزيد على 40 % من مرضى الفشل الكلوي في غزة

أمراض بين الخيام والركام: الوسواس القهري أنموذجًا

مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر

حرب غزة: أثار قاتلة على مرضى الفشل الكلوي