بين نافذتين: حياة زوجية مُعلّقة   

بين نافذتين: حياة زوجية مُعلّقة   

كان الهاتف يرتجف في يدّ أحمد عبد الهادي، المواطن الفلسطيني المُقيم في تركيا، بينما كان يحاول يائسًا الوصول إلى خطيبته العالقة في غزة تحت وطأة الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ عشرين شهرًا. 

لساعاتٍ، ظلّ الإنترنت مقطوعًا بعد قصفٍ عنيف كادّ أن يودي بحياتها، ولم يبقَ له سوى الانتظار، والقلق، ومحاولات متكررة للاتصال بعائلتها وأقاربها على أمل سماع أيّ خبر يُطمئنه. ثم فجأة، دقّ الهاتف، فجاءه صوتها هادئًا رغم كل شيء: "أنا بخير.. نجوت".

عندما عادّ عبد الهادي إلى غزة في يونيو/ حزيران 2023، بعد ست سنوات من الغربة قضاها في تركيا لإكمال الماجستير. هناك، التقى بامرأة أصبحت رفيقة دربه، وفي يوليو من العام نفسه، أعلنا خطوبتهما في حفلٍ بسيط، تحدوه بالأحلام التي بدَت قريبة التحقيق. 

"قضيت معها أربعين يومًا، كنت من أسعد الناس"، يتذكّر عبد الهادي، بينما يُحدّق في صورة لهما معًا على هاتفه. كان من المفترض أن يعود مرّة أخرى بعد انتهاء فصلها الجامعي الأخير لإقامة الزفاف، لكنّ الحرب جاءت لتُغير كل الخطط.  

اليوم، يجلس عبد الهادي وحيدًا في شقته في تركيا، يحاول التخفيف عن خطيبته بإرسال صور الأثاث الذي يشتريه لبيتهما المستقبلي. يقول: "أُرسِل لها صور طاولات السفرة، لتختار معي"، ويُشير إلى إنّها محاولة بسيطة لانتشالها، ولو للحظات، من واقع القصف والجوع والخوف؛ لكنّ المعابر مقفلة، والحلم معلق في مكانٍ ما بين غزة والعالم الخارجي.  

حصل هذا الشاب مؤخرًا على الجنسية التركية، وفورًا سارع بإدراج خطيبته على قوائم الإجلاء، على أمل أن تفتح الأبواب يومًا ما؛ لكن حتى الآن، لا يوجد أيّ ضمان يضمن له انتشالها من فمّ الحرب أو حتى بارقة أمل وسط الإغلاق واستمرار آلة الحرب بلا هوادة.

منذ ما يزيد عن عام، وتحديدًا في مايو/أيار 2024، أُغلق معبر رفح البري بالكامل أمام حركة المسافرين، بعد أن سيطر الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني منه. هذا الإغلاق لم يزد الوضع الإنساني إلا سوءًا مع استمرار الحرب، حيث حُرم آلاف المرضى والطلاب والعالقين من أيّ فرصة للخروج. 

هذا الإغلاق تصفه المؤسسات الحقوقية بالقرار "الجائر" بالرجوع للقوانين الدولية الواضحة في هذا الشأن. لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، وخاصّة المادة 33، التي تحظر العقوبات الجماعية ضدّ المدنيين، بما في ذلك إغلاق المعابر ومنع حرية التنقل؛ لكن على الأرض، في قطاع غزة، يتعطلّ عمل هذه المواثيق بشكلٍ يفاقم الظروف الإنسانية قسوة وصعوبة.  

ليست خطيبة عبد الهادي وحدّها العالقة في هذا الكابوس منذ شهورٍ طويلة. هدى عامر، شابةٌ أخرى من مدينة غزة، خُطِبت في عام 2022 لشاب فلسطيني يعيش في رام الله، وعلى الرغم من إتمامهم إجراءات "كتب الكتاب" لكنّها لم تلتقِ به إلا عبر الشاشات حتى اللحظة. 

حاولت هدى السفر إليه مرارًا، لكنّ المنع الأمني الإسرائيلي من دخولها الضفة الغربية حال دون ذلك. وقبل الحرب بأيام، تقدّم خطيبها بطلبٍ إلى المحكمة الإسرائيلية لرفع قيود السفر المفروضة عليه لمغادرة الضفة، لكنّ اندّلاع القتال جعل كل الجهود تذهب أدراج الرياح. 

تقول هدى بصوتٍ أنهكه البكاء: "كنا نأمل أن يسافر خطيبي إلى تركيا، ثم ألحق به هناك". على الرغم من ذلك، لم يفقد الشاب الأمل وشاركها كل لحظات الحرب، وقاطع الطعام لأجلها ففقد 15 كيلو غرامًا مثلها تمامًا تضامنًا معها، فيما هي ترزح تحت ظروف الحرب والمجاعة في قطاع غزة. 

"لا توجد خطط، لا يوجد جدول زمني، لا شيء مضمون وليس هناك أفق ثابت"، تضيف. "لكننا منفتحون على أيّ خيار بمجرد أن تنتهي هذه الحرب". تُردف هدى وهي تشاهد صور خطيبها الأخيرة وأمامه صحن عدس في رسالةٍ منه مفادها "أنا معك".

أمّا مها السقا من غزة، فقصتها أكثر قسوة، إذ تعيش في تركيا منذ ثماني سنوات، وهي متزوجة من رجلٍ فلسطيني ولديها ثلاثة أطفال. في 2023، عاد زوجها إلى غزة لزيارة والدته المريضة، وكان من المفترض أن تكون مدّة الزيارة عشرة أيام فقط لكنّ ظروف السفر من وإلى قطاع غزة مُفعمة بالمفاجآت دومًا.

عند محاولة زوجها العودة إلى تركيا، مُنع من السفر من الجانب المصري دون أسبابٍ واضحة. ثم اندّلعت الحرب الإسرائيلية على القطاع، فحاول دفع عشرة آلاف دولار لقاء إجراء أوراق "تنسيق" يُمكنّه من الخروج، لكنّ المحاولتين اللتين قام بهما باءتا بالفشل.

"طرقت كل الأبواب في تركيا لأجتمع بزوجي، المؤسسات الحقوقية، السفارة الفلسطينية، المناشدات، كلّها لم تجدي نفعًا"، تقول مها التي قطعت الحرب أواصر أسرتها، بينما تمسح دموع طفلها الصغير الذي يبكي اشتياقًا لوالده باستمرار.

كلما انقطع الإنترنت عن غزة، يُصاب الأطفال بنوبات هلع، ويقولون لها: "يا رب ما يكون بابا استشهد". وعندما يتصلون به ويسمعون دويّ القصف والقذائف العنيفة في الخلفية، يصرخون طالبين منه الهرب، لكن أين السبيل والأبواب كلّها مغلقة.

في الصباح، تنظر مها من نافذة شقتها في تركيا إلى الشارع حيث الحياة تسير بوتيرتها العاديّة، بينما تظلّ حياتها وحياة أطفالها الثلاثة مُعلقة في ذلك الركن من غزة حيث يحاصر زوجها تحت ويلات الحرب. 

كل اتصال هاتفي بين هذه الأسرة على مدار عامين من البُعد، هو تحدٍ للظروف من انقطاع الإنترنت ومنع السفر، وكل مرة يسمعون فيها صوته، يخبره الأطفال: "ستأتي إلى جانبنا قريبًا!"، كما لو أنّ تكرار هذه الجملة قد يعجّل بتحقيقها.

لكنّ "قريبًا" كلمة نسبية في قطاع غزة. ففي ظلّ الحرب، لا ضمانات، ولا مواعيد، ولا يقين سوى أنّ المعبر مُغلق، وأنّ الآلاف مثل أحمد وهدى ومها ما زالوا ينتظرون بصيصًا من الضوء في نهاية هذا النفق الطويل.

 

موضوعات ذات صلّة:

 

أطفال عالقون: غياب يقاس بالدموع لا بالكيلومترات

الجرحى المغتربون: شتات إلى أجل غير مسمى

الطلبة العالقين: أحلامٌ مؤجلةٌ على رصيفِ الحرب

من حلم الزيارة إلى كابوس الحصار..

عالقون في الضفة: قلوب العمال معلقة في غزة

حكايات العالقين في غزة على معبر رفح