كافيين الحرب: حمص حَب

كافيين الحرب: حمص حَب

يجلس حسن عليان (55 عامًا) أمام خيمته المُتهالكة في حي الجلاء وسط مدينة غزة، يُمسك بيديه إناء صدئ لغلي الماء، كانت في يومٍ ما علبة حمصٍ مُعلَّب. بداخلها الآن خليطٌ أسود يغلي، يصبّه في فنجانه بحرصٍ شديد. ينظر إلى السائل الداكن وهو يتمتم: "هذه المرة ليست قهوة العدس، إنها قهوة الحمص.. الله يعين".  

قبل أسبوع، دفع حسن 70 شيكلًا (20 دولارًا) مقابل "قهوة" تبين لاحقًا أنّها خليط من الحمص المحمص وحَب الهال الذي كان طاغيًا في طعمها. يقول وهو يفرك جفنيه المتعبين: "سمعت كثيرا أنَّ القهوة الرائجة في الأسواق المغشوشة، لكنّي لم أُصدق حتى وقعت في الفخ، وها أنا أشرب الآن سائلا لا يشبه القهوة في شيء".

في قطاع غزة الذي أنهكته تسعة عشر شهراً من الحصار والحرب الإسرائيلية، اختفى فنجان القهوة الصباحي ذلك الطقس اليومي المُعتاد للكثير من سُكانها. فمع شحّ المواد الخام وانهيار سلاسل التوريد، تحوّل البن الأصلي إلى سلعة نادرة تخطّت أسعارها 200 دولار للكيلو بعدما كانت تُباع بـ (10-15) دولارًا قبل الحرب. 

في المقابل، انتشرت في الأسواق بدائل مُغشوشة - من حمص مُحمص وعدس مطحون إلى نوى تمر محروق - يبيعها التجار على أنها "قهوة حرب"، في محاولة يائسة لإرضاء رغبات الغزيين في تناول فنجانهم التقليدي.

لم تكن هذه التحوّلات مجرد تَغيُّر في العادات الاستهلاكية؛ بل مؤشراً على عُمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها القطاع. فما كان يوماً مشروباً شعبياً في مُتناول الجميع، صار اليوم محض ترف لا يقدر عليه سوى القلّة، بينما يضطر معظم السكان إلى التعايش مع بدائل سيئة الطعم، خطيرة على الصحة، لكنّها الخيار الوحيد المتاح أمامهم.

وفقًا لوزارة الاقتصاد الفلسطينية، انخفض الاستهلاك السنوي للبن من 2500 طنٍّ إلى مستوياتٍ متدنية جدًا بسبب الحرب وارتفاع معدّل الفقر إلى 100% وضعف جودة المتوفر منه في الأسواق وارتفاع ثمنه، حيث صارت تُباع اليوم القهوة "المغشوشة" في أكياس صغيرة بأسعارٍ تصلّ إلى عشرةِ أضعاف سعر الأصلية قبل الحرب، نتيجة منع دخول السلع واحتكار الباقي منها.

أحمد شاهين (37 عامًا)، الذي كان يشرب ثلاثة فناجين يوميًا، يحمل بين يديه كيسًا من "القهوة" التي اشتراها الأسبوع الماضي. يفتحه بعناية، ثم يسحق حبةً بنية بين أصابعه: "انظر.. هذه ليست قهوة، إنها حمصٌ محروق مخلوط بالهيل. لكن ماذا أفعل؟ الصداع الذي أعانيه من انسحاب الكافيين يجعلني أشتري أي شيءٍ يشبهها".

يُردف شاهين: "عندما أصبحت أتناول هذه القهوة المغشوشة شعرت بنفس أعراض الانقطاع عن شرب القهوة الأصلية، صداع، توتر، فهي مهمة بالنسبة لي كالطعام، بعد مرور الوقت اعتدّت على الأمر لكني ما زلت مشتاقًا لكوب قهوة قديم".

على بسطة بسوق الصحابة بغزة، يتجمّع باعةٌ يتناقلون أكياسًا بُنية اللون بأسماءٍ مُزيفة: "قهوة برازيلية"، "مزاج تركية". أحدهم قال: "أقول للزبون إنّها غير خالصة؛ لكن البعض يبيعونها على أنّها نتاج مصانع شهيرة ومعروفة بتصنيع القهوة في غزة فيقع في غشهم الكثير".

حنان سليم (45 عامًا) تروي كيف دفعت 30 دولارًا مقابل "قهوة" تبين أنّها خليطٌ من نوى التمر، تقطب جبينها وتقول: "طعمها كالرماد الممزوج بالسكر الأسود". تحاول الآن غليها مرتين لتخفيف المرارة، لكنّ النتيجة ذاتها: ألمٌ في المعدة، وصداعٌ لا ينتهي.

في هذا الصَدد، يُحذر خبراء التغذية من المخاطر الصحية لبدائل القهوة المصنوعة من مواد مثل نوى التمر المحروق أو الحمص المحمص، حيث يؤدي تحميصها بدرجات حرارة مرتفعة إلى إنتاج مركبات ضارة تهدد سلامة الكبد على المدى الطويل. 

كما تشمل الآثار السلبية مشكلات هضمية كالحموضة المُزمنة والتقرحات المعوية، إضافة إلى نقص القيمة الغذائية مقارنة بالقهوة الحقيقية. ويبرز خطر إضافي يتمثل في إمكانية إثارة ردود فعل تحسسية، خاصّة لدى الأشخاص الذين يُعانون من حساسية تجاه البقوليات.

قبل الحرب، كانت مصانع مثل "بدري وهنية" تنتج قهوة "مزاج" من خليط البن الكولومبي والبرازيلي. بعدما تُخزن وتتبع عمليات الفلترة والتحميص على درجات حرارة معينة وفقًا لنوع القهوة المُنتجة، ثم تُطحن وتباع بعدّة أنواع حسب أذواق المستهلكين.

اليوم، أصبح تشغيل تلك المصانع محال وتحوّل الكثير منها إلى أطلال، فصار "البن" يُصنع في بطرقٍ متواضعة، إذ تُحمّص حبوب الحمص أو العدس على نار الحطب حتى تحترق. ثم تُطحن مع الهيل أو نوى التمر، وتُعبأ في أكياسٍ تحمل أسماءً غريبة.

حاولت مراسلة "آخر قصة" التواصل مع مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني، محمد بربخ، لكن لم تحصل على إجابة حول إجراءاتهم الرقابية على المنتجات المغشوشة في الأسواق. في المقابل، أرجع مختصون حالة الفوضى الرقابية إلى صعوبة الوضع الأمني المحلي، وتعمد استهداف الاحتلال للجهات الحكومية.  

وهنا يبرز التناقض: فبينما تنص المادة (3/أ) من قانون حماية المستهلك رقم (21) لسنة 2005 على أنّ "للمستهلك الحق في الحصول على سلع وخدمات سليمة وآمنة لا تشكل خطراً على صحته أو حياته"، نجد هذه النصوص القانونية عاجزة عن الحماية في واقع تشوهه الحرب. كما تؤكد المادة (3/ب) على حقّ المستهلك في "الحصول على معلومات صحيحة وكافية عن السلعة"، وهو ما يتم انتهاكه بشكل صارخٍ في سوق السلع المغشوشة. 

الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر يعلق على هذا التناقض بالقول: "الاحتلال يمنع دخول حتى المواد الخام، والتجار يبيعون ما تبقى بأسعار خيالية تعكس حالة التشوه الموجودة في السوق". وتؤكد بيانات البنك الدولي هذا الواقع المرير، حيث ارتفعت أسعار الغذاء في غزة 437%، بينما انخفضت القوة الشرائية 89%.

وأوضح أبو قمر أنّ حالات الغش التجاري الموجودة سواء بالقهوة أو غيرها من المنتجات سببها نُدرة المنتجات، وغياب رقابة فاعلة من الجهات المُختصة التي لا تتابع مهامها كما ينبغي بسبب حالة عدم الاستقرار جرّاء الحرب.

في خيمةٍ أخرى، تُحاول مروة محمد (50 عامًا) تحضير "قهوة" من خليطٍ اشترته في كيسٍ شفاف صغير. تسكب الماء الساخن على المسحوق الأسود، فتتصاعد رائحةٌ تشبه البطاطا المحترقة. تقول بمرارة: "في الماضي، كانت القهوة تُشرب في الفرح والعزاء. اليوم صارت عزاءً بحد ذاتها".

ربما يكون هذا هو المشهد الأكثر قسوة: أن يصبح الفنجان الذي كان رمزًا للضيافة، شاهدا على جريمةٍ لا يعاقب أحدٌ عليها. ففي غزة، حتى الرائحة التي كانت تبعث على الاسترخاء، صارت تُذكّر الناس فقط بأن الحرب لم تترك لهم شيئًا، حتى حقّهم في غذاء آمن.

 

موضوعات ذات صلّة:

طحينٌ مخلوط بالرمل يكسر فرحة الجوعى برغيفٍ ساخن!

الألبان الفاسدة.. خطر على صحة المواطن وجيبه! 

الطحين الفاسد على موائد الجائعين

غياب الرقابة والمجاعة تعززان انتشار الأطعمة المغشوشة

الحرب عطلت القوانين: المستهلكون ضحايا فوضى السوق