هل الصيام القسري خطوة تسبق الموت جوعاً؟

  هل الصيام القسري خطوة تسبق الموت جوعاً؟

في زاوية مظلمة من منزله المهدم جزئياً في حي النصر غرب مدينة غزة، يحاول محمد أبو عيسى (34 عاماً) إقناع طفليه البالغين من العمر 4 و6 سنوات بأن وجبة اليوم ستكون "قريباً". لكن "قريباً" هذه المرة قد تعني الغد، أو ربما لن تأتي أبداً.

"أخبرهم أننا نصوم، وطفلتي ترفض ذلك على اعتبار أن هذا ليس صيام رمضان.. هذا جوع بلا نهاية"، يقول أبو عيسى بصوت مبحوح، وهو يجلس فوق كتلة خرسان بينما تتدلى يداه الهزيلتان بإرهاق.

لم يعد يشبه نفسه قبل 19 شهراً، عندما كان يعمل بأجر يومي يغطي احتياج أسرته ويعيش في أمان واستقرار. أما الآن، فوزنه أقل بـ 25 كيلوغراماً، ووجنتاه غائرتان بشكل مخيف.

مثل آلاف الأسر في غزة، أصبحت عائلة أبو عيسى تعتمد على وجبة واحدة يومياً، إن وجدت. غالباً ما تكون خبزاً مصنوعاً من طحين متعفن أو حساء العدس أو الفاصوليا، أو حساءً من أوراق الشجر الممزوجة بقليل من الملح.

"نحن نوزع الطعام على الأطفال أولاً، ثم يأكل الكبار الباقي.. إن بقي شيء"، تقول زوجته سميرة (29 عاماً)، التي لم تعد قادرة على إرضاع رضيعها بسبب سوء التغذية. وتشير إلى أنها تشعر بحالة من الهزل الشديد وفقدان القدرة على احتمال الأعباء المنزلية في غمرة الجوع ونقص الفيتامينات المغذية.

وفقاً لإحصائية صادرة عن وزارة الصحة في غزة، فإن 326 شخصاً لقوا حتفهم بسبب الجوع أو نقص الدواء منذ إغلاق المعابر قبل أكثر من 90 يوماً. من بينهم 58 طفلاً ماتوا بسبب سوء التغذية الحاد، و26 مريض كلى توفوا بسبب انعدام الغسيل الكلوي ونقص الأدوية.

في جولة ميدانية داخل الأسواق، وتحديدا في سوق الزوايدة وسط قطاع غزة، حيث كانت تُباع الفواكه والخضروات الطازجة، أصبحت البسطات تعرض عبوات من الفيتامينات والمكملات الغذائية الخاصة بالأطفال. بعضها منتهي الصلاحية، وبعضها مسروق من مستودعات المساعدات.

"اشتريت زبدة الفول السوداني، بـ 20 شيكل (حوالي 5 دولارات) لابنتي، لكنني أشعر بالذنب"، تقف أم يوسف (32 عاماً) أمام إحدى البسطات. "أعرف أن هناك أطفالاً يحتاجونها أكثر بوصفه أنه مكمل غذائي، لكن ماذا أفعل؟ ابنتي تطلب مني شيء مُحلى يمكن هضمه".

منظمات دولية، منها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، حذرت من "استنزاف المكملات الغذائية"، مؤكدة أن كل عبوة قد تنقذ طفلاً من الموت. لكن التحذيرات تبدو بلا معنى في وجه أهالي يحاولون إنقاذ أطفالهم بأي ثمن.

في وقت يحكم فيه اللصوص السيطرة، يقتات الغلابة على فتات الدقيق، "عندما تصل شاحنة مساعدات، يكون اللصوص قد سبقونا"، يقول أحمد النجار (45 عاماً)، أحد سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. "هم مسلحون، ولديهم قوة النار.. نحن ليس لدينا سوى الأكياس الفارغة".

في مشهد يتكرر يومياً، يتدافع عشرات المدنيين عند وصول أي شحنة طحين، حيث يسقط البعض تحت الأقدام، بينما يملأ آخرون أيديهم بما استطاعوا حمله من دقيق مبعثر على الأرض. "في الأسبوع الماضي، مات رجلان اختناقاً أثناء التدافع"، يقول النجار.

وسبق وأن أطلقت قوات الاحتلال النار على المحتشدين من أجل الحصول على المساعدات في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، وقالت مصادر طبية فلسطينية إن نحو 31 شخصا سقطوا نتيجة استهدافهم خلال انتظار الحصول على المساعدات الغذائية.

في الأثناء، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن جزعه إزاء التقارير التي أفادت بمقتل وإصابة فلسطينيين أثناء سعيهم للحصول على المساعدات في غزة الأحد (الأول من يونيو)، مشيرا إلى أنه "من غير المقبول أن يخاطر الفلسطينيون بحياتهم من أجل الغذاء".

ودعا غوتيريش بيان، إلى إجراء تحقيق فوري ومستقل في هذه الأحداث، ومحاسبة الجناة.  وقال الأمين العام إن على إسرائيل التزامات واضحة بموجب القانون الدولي الإنساني للموافقة على المساعدات الإنسانية وتسهيلها، مؤكدا على ضرورة استعادة دخول المساعدات، بلا عوائق، على نطاق واسع من أجل تلبية الاحتياجات الهائلة في غزة فورا.  

سبق ذلك، تحذير  من منظمة (أوتشا) نتيجة سوء التغذية الحاد في غزة، والذي قالت إنه ارتفع بنسبة 65% منذ بداية العام، بينما انخفض عدد الأطفال الذين يتلقون التغذية التكميلية بأكثر من الثُلثين في مارس/آذار الماضي.

"الوضع يتدهور بسرعة، وخاصة بين الأطفال"، تقول أولغا تشيريفكو، المتحدثة باسم أوتشا في غزة، في تصريح صحفي. "إغلاق المعابر يعني أن الأسر لم تعد تحصل حتى على الحد الأدنى من السعرات الحرارية".

في مستشفى أصدقاء المريض بمدينة غزة، يوضح الدكتور علي محمود (طبيب أطفال) أن العيادات تغص بحالات الهزال والجفاف بين الأطفال. "نعطي الأمهات ماءً وسكراً كعلاج.. هذا كل ما لدينا".

في زاوية أخرى من المستشفى، تقف أم سليم (25 عاماً) بجانب جثة رضيعها الذي لم يتجاوز عمره 6 أشهر. "مات بسبب الإسهال.. لم يكن لدينا حتى محلول معالجة الجفاف"، تقول بينما تمسح دموعها بكمّ ثوبها البالي.

وفي الوقت الذي استسلمت فيه أم سليم لقدر طفلها وجففت دمعها، يعود المواطن أبو عيسى عند غروب الشمس، إلى منزله خالي اليدين. أطفاله يبكون، لكنه لا يملك حتى كلمات لمواساتهم. "أطفالي يموتون بالبطيء، وهذا أصعب ما في الأمر"، يقول والدمع محتبس في عينيه.