يقف المواطن الأربعيني وليد فارس أمام فرن طين في حي الدرج، يحمل على رأسه صينية أرغفة العجين وبين أصابعه بضع قطع نقدية، ثم يتراجع قليلًا بعد أن يسمع ارتفاع تكلفة خبز الرغيف الواحد. "قبل أيام كنا نخبز كل رغيفين بشيكل، اليوم يطلب الخبّاز شيكل لقاء خبز كل رغيف ويتذرّع بغلاء الخشب" يقول وهو يفرك جبهته المتعرِّقة.
يُردف الرجل بصوتٍ متقطع: "ألا يكفي أنّ الطحين نادر والمتوفر منه فاسد وغالٍ جدًا، قبل الحرب كان سعر الكيلو لا يتجاوز بضع شواكل واليوم يصل إلى 80 شيكل وأكثر". وفقًا لمركز الميزان لحقوق الإنسان، ارتفع سعر الطحين بنسبة ٧٤٣٪ في غضون أشهر، بينما تضاعف سعر البيض ثلاث مرات ونصف.
يعود غلاء سعر الدقيق إلى ندّرة الكمية المتوفرة فإغلاق الاحتلال الإسرائيلي لمعابر قطاع غزة حال دون دخول المواد الأساسية مثل الغذاء والدواء والوقود، ما أدّى إلى نقصٍ حادّ في هذه السلع داخل القطاع.
وفي ظلّ استمرار إغلاق المعابر، يسارع بعض التجار إلى رفع أسعار المواد الأساسية بشكلٍ غير مُبرر، مستغلين انعدام البدائل، مما يزيد معاناة السكان، وخاصّة الفئات الأكثر ضعفًا مثل النساء والأطفال وكبار السن.
لكن وسط هذه الكارثة الإنسانية، تنشأ مفارقةٌ صادمة، ففي شوارع غزة التي تشهد دمارًا متواصلًا، توجد حركة تجارية صامتة تنمو في الظلّ. بينما يعاني معظم السكان للحصول على لقمة العيش أو دواءٍ يُنقذ طفلًا، يجد آخرون في الأزمة فرصةً لتحقيق أرباحٍ لم يحلموا بها في أوقات السلم.
إيمان لافي، وهي أمٌ لخمسة أطفال، تروي كيف تحوّلت وجبة العشاء إلى معادلةٍ مستحيلة: "نطحن المعكرونة اليابسة ونصنع منها دقيقًا نخبز منه بضع أرغفة تُشبع بطون الأطفال".
وتقول المواطنة لافي إنّ بعض التجار يشترون كميات هائلة من المواد الأساسية خلال فترة توفرها ويخزنونها حتى يُغلق المعبر ويرتفع الطلب، ثم يبيعونها بأسعارٍ خيالية. تتابع: "المشكلة أننا لا نملك خيارًا آخر. إما أن ندفع أو نجوع".
وكانت السيّدة قد حاولت تخزين بعض المواد التموينية التي حصلت عليها من المساعدات الخيرية خلال فترة توفرها، واتبّعت مبدأ التقنين في الأطعمة لتتجنب الوقوع في شِباك المجاعة؛ لكن المشكلة الكبرى التي حصلت معها غيّرت كل توقعاتها.
تضيف لافي التي تقطن في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة: "فجأة اضطررنا للنزوح في ليلةٍ وضحاها، لم نحمل إلا أرواحنا معنا، وتركنا كل شيء خلفنا"، وخلال ساعات أصبحت المنطقة شديدة الخطورة فلم تستطع العائلة الوصول للبيت مرّة أخرى والحصول على ما يُخمد جوعها في قادم الأيام.
"الحرب لا تقتلنا بالصواريخ فقط"، تقول المرأة بينما تُشير إلى سوقٍ مكتظٍ بتجارٍ يرفعون الأسعار دون رحمة. "هناك من يقتلوننا بجشعهم، وصمت العالم يُكمِل الجريمة".
وهكذا أصبحت هذه العائلة وغيرها آلاف من العوائل النازحة تُعاني كمد الحصول على احتياجاتها من أسواق قطاع غزة بأسعارٍ تفوق قدرتها بأضعافٍ مُضاعفة.
وإذا كانت الصواريخ تدمر المنازل، فإنّ غياب الأدوية والوقود يدمر ما تبقى من حياة، فليست المواد الغذائية وحدها التي تشهد استغلالًا. في المستشفيات، يُحكى عن أمهاتٍ يبعن حليهنّ الذهبية لشراء علاج أطفالهنّ، بعد أن ارتفعت أسعار الأدوية المتبقية والتي انتهت صلاحية الكثير منها إلى أرقامٍ عالية.
تقول الممرضة نداء أبو عصر: "حتى الأدوية التي كانت تُوزّع دون مقابل والمسكنات كالأكمول مثلا، صارت تُباع في الأسواق بأسعارٍ تُضاعف ثمنها عشرات المرات."
وفي الأزمات، تتحمّل النساء العبء الأكبر، إحداهنّ، داليا مفيد وهي أرملة في الأربعينات، توضح كيف باعت خاتم زفافها قبل أسابيع لتشتري دواءً لابنها المصاب بالربو بضعف ثمنه المعتاد: "بالكادّ وجدته وحينها قال لي الصيدلي: 'إذا لم تشتريه الآن، فلن تجديه غدًا'".
الأمر نفسه ينطبق على الوقود وغاز الطهي. بحسب أرقام وردت عن الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (UNRWA)، ارتفع سعر لتر البنزين بنسبة ٥٦٣٪، ما أجبر العديد من العائلات على العودة إلى استخدام الحطب للطهي.
"نحن نعيش كما كان أجدادنا يعيشون، لكن في القرن الحادي والعشرين"، يقول سائق تاكسيٍّ، بينما يشير إلى عدادٍ فارغ في سيارته: "لا أحد يستطيع أن يملأ الخزان الآن".
حتى كبار السن ليسوا بمنأى، فقد تضرروا كثيرًا بفعل فوضى الأسواق. أبو علي، سبعيني يعاني من مرض السكري، وهو واحد من 78% من كبار السن الذين يُعانون من أمراض مزمنة في قطاع غزة.
يقول الرجل الذي يعيش مع أسرته بلا مصدر دخل، أنّه يضطر للاختيار بين شراء الدواء أو الخبز، يُضيف بصوتٍ حزين "في النهاية، أشتري الدواء بالحبة فلا غنى عن الأمرين".
إنّ ارتفاع الأسعار وانعدام الرقابة على الأسواق لا يؤثر فقط على الأوضاع الاقتصادية للمواطنين في غزة، بل يعمق أيضًا الفجوة الاجتماعية بين الفئات المختلفة في المجتمع.
يقول المختص الاجتماعي عرفات حلس، إنّ الفئات الهشة، خصوصًا النساء والأطفال وكبار السن، هم الأكثر تضررًا من هذه الزيادة الجنونية في الأسعار، حيث يجدون أنفسهم مضطرين للاختيار بين شراء الطعام أو الأدوية.
وفي بعض الحالات، تضطر النساء للعمل أو بيع مصاغهن وممتلكاتهن لتأمين قوت أسرهن، وهو ما يعكس حجم المعاناة التي تواجهها الأسرة الغزية في ظل غياب الدعم الاجتماعي والاقتصادي.
يضيف المختص الاجتماعي: "المجتمع يعاني من تدهور حادّ في المساعدات الاجتماعية، حيث إن النساء، وخصوصًا الأرامل منهن، يتحملن العبء الأكبر في تأمين حياة كريمة لأسرهن".
هذه الزيادة في أسعار المواد الأساسية وتدني القدرة الشرائية تخلق حالة من العجز المستمر، وفقًا لحلس، مما يؤدي إلى تفشي مشاعر الإحباط واليأس بين السكان، وخاصة في ظل الأوضاع الإنسانية الصعبة التي يعيشونها.
ووراء الإحصاءات الجافة، ثمة قصصٌ تذكّر بالكارثة الإنسانية الحقيقية. إذ يُشير ارتفاع معدل الفقر إلى 100% في قطاع غزة بحسب البنك الدولي، وتجاوز نسبة التضخم 250%، إلى أنّ عشرات الآلاف من العائلات تعيش على وجبةٍ واحدة يوميًا، فيما يُترجم تخطي البطالة معدّل 80٪، إلى الكثير من أرباب الأسر العاجزين عن إعالة أطفالهم.
يرى مختصون أنّ غياب الرقابة على الأسعار في أسواق قطاع غزة عزز حالة الاحتكار والاستغلال القائمة. يقول المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر، إنّ عدم وجود الرقابة يعود إلى عدة عوامل اقتصادية مرتبطة بشكلٍ مباشر بالحالة السياسية والاقتصادية التي يمر بها القطاع".
ويتمثل العامل الأول في أنّ السوق يعاني من قلة العرض بسبب الحصار وإغلاق المعابر، مما يجعل التجار في موقف يسمح لهم برفع الأسعار دون رقابة. أمّا العامل الثاني، بحسب أبو قمر، فهو ضعف آليات الرقابة الحكومية بسبب الأزمات المستمرة؛ ما يجعل من الصعب تنظيم السوق بشكل فعّال.
يضيف أبو قمر: "هذا كله يساهم في التضخم غير المبرر، مما يزيد من معاناة المواطنين، خاصة الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال".
في خضم هذا المشهد، يبقى السؤال: كيف يمكن كسر هذه الحلقة؟ بعض المُبادرين/ات يحاولون تنظيم مبادراتٍ لتوزيع المساعدات. لكن في ظل حربٍ لا تنتهي واقتصادٍ منهار، يبدو أن العدالة الاجتماعية أصبحت ترف لا يملكه سكان قطاع غزة.
موضوعات ذات صلّة:
غزة: التحول من أزمة غذائية إلى مجاعة
التقشف الإجباري: قصص محزنة وأرقام صادمة
حتى لا تتحول معادلات الغذاء إلى شواهد قبور
دايت قسري: الحرب أبطلت برامج التخسيس
بيع المصاغ والأثاث آخر الحلول لمواجهة الجوع
فقراء قطاع غزة