كيف تحوّلت الموسيقى إلى تصبيرة على الجوع؟

كيف تحوّلت الموسيقى إلى تصبيرة على الجوع؟

في أحد مراكز الإيواء المكتظة في مخيم النصيرات، حيث تتكدّس عائلات بأكملها في مساحات لا تتجاوز 3 أمتار مربعة لكل أسرة، يعلو صوت بيانو صغير فوق دوي القصف القريب.

هنا تجلس ليان (14 عاماً) التي فقدت منزلها، تتدرب على معزوفة "لحن العودة" التي يعيد معلموها ترديدها خصيصاً للأطفال النازحين.

"عندما أعزف، أنسى للحظة أنني جائعة"، تقول ليان بينما تمسح الغبار عن مفاتيح البيانو. هذه الجملة تلخص معاناة أكثر من 625,000 طفل في غزة، وفقاً لتقرير حديث لليونيسف، يعانون من مستويات "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي.

ولا يكاد يخلو الأفق من دويّ القصف، ومع ذلك تتحدّى أصوات الأطفالٍ الحالة الأمنية الخطرة. تستكشف ليان آلة موسيقية، وتقول: "نغني كأن الحرب لم تسرق فرحنا".

هذه المشاهد ليست معزولة. فبعد 19 شهراً من الحرب التي دمّرت البنية التحتية وحوّلت حياة السكان إلى رحلة نزوح يومي هرباً من الموت بينما الجوع يعصر أمعائهم، يخلق الموسيقيون والأطفال في غزة مساحات أمل عبر الفن.

عندما نفد الدقيق من منزله، وجد الكاتب والملحن أحمد أبو عمشة نفسه عاجزًا عن النوم من شدة الجوع. فبدلًا من الاستسلام، كتب أغنية بعنوان "مين سامع مين؟" في تلك الليلة نفسها.

يقول أبو عمشة: "كنت عاجزًا عن النوم من شدة الجوع، لم يكن هناك ما آكله.. هذه هي حياه الموسيقيين في غزه وبقيه الناس، فكتبت أغنية من أعماق إحساسي، من وجعي الذي يسكن قلبي".

وأوضح الملحن، أنّه بمجرد من انتهى من كتابة كلماته، فقد شعرَ بأنه تمكن من التعبير عما يجول في خاطره، ولم ينتظر حتى طلوع النهار، حيث استثمر ساعات الليل المخيف، في تلحينها وتسجيلها.

 وقال: "لقد سجلتها في نفس الليلة، وبعدها فقط استطعت أن أنام، فهذه أغنية وُلدت من قلب الجوع".

قد تكون صورة ‏‏‏٤‏ أشخاص‏ و‏جيتار‏‏

الأغنية، التي انتشرت لاحقًا على منصات التواصل، تبدأ بكلمات: "مين سامع مين؟ إحنا المظلومين.. نصرخ بأعلى صوت، بس الصدى سامعين".

لم تنجو المؤسسات الفنية من الدمار. فمبنى معهد إدوارد سعيد للموسيقى، الوحيد في غزة، تعرض للقصف. لكن طاقمه لم يستسلم.

تقول منال عواد، مديرة المعهد: "خلال أشهر من العمل في أوضاع قاهرة، تمكّن الفريق من استعادة بعض الآلات، إمّا عبر شرائها من شركة محلية نجت من القصف، وإمّا استعارتها من الأهالي، على الرغم من فقدان جزء منها خلال عمليات النزوح المتكررة".

وأضافت عواد التي فقدَت مسكنها نتيجة الحرب، "اليوم، تُخبّأ هذه الآلات في زوايا المدارس أو تحت أسرَّة النازحين داخل الخيام، وكأنها كنوز".

قد تكون صورة ‏‏‏‏٧‏ أشخاص‏، و‏طفل‏‏ و‏أشخاص يدرسون‏‏

بالتعاون مع كلية غزة، أطلق المعهد برنامج "بدايات غزة" لتعليم الموسيقى في شمال القطاع المحاصر. في أحد الفصول المؤقتة، يجلس 20 طفلًا على مقاعد بلاستيكية مهترئة، يتدربون على العزف رغم انقطاع الكهرباء وتقطع إمدادات الإنترنت.

أشرف لبد (39 عامًا)، عازف الكمان الذي يُدرّس في البرنامج، يوضح: "هؤلاء الأطفال فقدوا منازلهم وأقاربهم، لكن الموسيقى تعيد إليهم شيئًا من البراءة".

أما، في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تدرب شيرين زيدان، فريق كورال -مُكوّن من الأطفال- على أغانٍ تراثية فلسطينية. وتقول إحدى الطالبات، تدعى سارة (12 عامًا): "عندما أغني، أتخيل أن العالم يسمعنا.. ربما يفهمون يومًا ما أننا لسنا أرقامًا فقطن وأنهم قد يفقدونا نتيجة الجوع".

البرنامج لا يخلو من التحديات. فبالإضافة إلى صعوبة تأمين الوقود لتشغيل مولدات الكهرباء، يعاني الكثير من الأطفال من صدمات نفسية عميقة.

قد تكون صورة ‏‏‏٤‏ أشخاص‏ و‏كمان‏‏

يرى الأخصائي النفسي محمد مهنا، أن الموسيقى تعد وسيلة علاج غير مباشرة، لكنها لا تغني عن تقديم الدعم الطبي والنفسي العاجل للأطفال في قطاع غزة نتيجة الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.

رغم كل الجهود، يبقى السؤال: كم من الوقت يمكن لهذه المساحات الفنية أن تصمد؟ تجيب سارة بينما تحاول ضبط أوتار العود: "طالما بقي فينا نفس، سنغني.. لأن الموسيقى هنا ليست فنًا فقط، بل شهادة على أننا كنا هنا نجوع، وصمدنا".