لماذا يفشل المزارعون في إحياء حقولهم؟

لماذا يفشل المزارعون في إحياء حقولهم؟

 يفرك جلال عرفات (54 عاماً) يديه المتشبثتين بحفنةِ ترابٍ جافة، بينما يقف أمام أرضه التي ورثها عن أبيه. "سبع دونمات من الزيتون والحمضيات صارت أثراً بعد عين"، يقول الرجل الذي فقد مصدر رزقه الوحيد بعد أن حوّل الاحتلال الإسرائيلي منطقة نتساريم وسط قطاع غزة، حيث تقع أرضه على بُعد كيلومتر واحد منها إلى منطقة عسكرية مغلقة.

في فترة وقف إطلاق النار المؤقت (يناير – مارس 2025) خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على القطاع، ذهب عرفات لرؤية أرضه، فوجد نفسه واقفاً أمام مشهد لا يعرفه. "بكيت بصوت عالٍ"، يقول الرجل الخمسيني وصوته يهتز بين الكلمات. "بحثت عن أرضي ساعتين ونصف لكنني لم أتعرف عليها، كل شيء دُمّر".

مُنع عرفات من الوصول إلى أرضه، لخطورة الوضع الأمني في محور نتساريم وسط القطاع. وتعرّضت أرضه للتجريف في حروب سابقة، لكن الدمار هذه المرة كان مختلفاً. "هذا القطاع كان الأكثر إنتاجًا في غزة، لكنّ الاحتلال يريد تدمير الزراعة كلياً"، فيما تشير تقارير محلية إلى أن الاحتلال قلص المساحات الزراعية بنسبة 60-70%.

اليوم، يعيش عرفات في خيمة بعد تدمير منزله في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، ولا يجد مصدر لإعالة أسرته المكونة من 12 فرداً. بينما كان يحلم بأن يُورِّث أبناءه وأحفاده جزءًا من تلك الأرض، أصبح الحفاظ على الذكرى مستحيلاً. "كنت أتمنى أن يقولوا يوماً: هذه الشجرة زرعها جدنا"، يتذكر بصوتٍ حزين.  

ولا يبدو المزارع مروان أبو صلاح (40 عامًا)، من سكان عبسان الكبيرة شرق خانيونس جنوب القطاع أحسن حالًا من غيره، فهو الآخر يُعاني عواقب التدمير والتجريف الإسرائيلي لأرضه بشكلٍ كامل.

ويمتلك أبو صلاح (40 عاماً) أرضًا زراعية بمساحة 15 دونماً مزروعة بالزيتون والحمضيات والسبانخ والبامية والكوسا، وكان على وشك جني المحصول عندما اندّلعت الحرب في أكتوبر 2023. عند عودته المؤقتة خلال فترة الهدنة، استصلح أربع دونمات وزرعها بالبامية، لكنًه اضطر لتركها مرة أخرى عند انهيار وقف إطلاق النار في مارس الماضي.

"أينما نزحت، أزرع"، يقول أبو صلاح، الذي يعيش الآن في خيمة في منطقة أصداء غرب خانيونس جنوب قطاع غزة. لكنه مع ذلك، لم يستسلم لتدمير أرضه، فعاد للزراعة التي لا يعرف غيرها مهنة له واستأجر ست دونمات وزرعها بالخضراوات. 

كما بدأ في استصلاح 12 دونماً أخرى في مواصي خانيونس جنوب القطاع، لزراعة الحمضيات. يُعقّب: "ارتباطي بالزراعة روحي، لا يمكنني التخلي عنها".

ما يحدث مع المزارعين الذين خسروا أراضيهم لم يكن مجرد حالات معزولة، فبحسب المهندس علي وافي، مدير البرامج في الإغاثة الزراعية، إنّ أكثر من 80% من القطاع الزراعي تضرر، في ظلّ استمرار الاحتلال السيطرة على الأراضي الزراعية في المناطق الحدودية، بينما تدمّرت البنية التحتية بنسبة 90%. 

يقول وافي: "الآبار، الأشجار، التربة، كلها تحتاج لسنوات لإعادة التأهيل لتصبح صالحة مرّة أخرى للزراعة، والكثير من الأراضي أصبحت بوراً لأن المزارعين لم يصلوا إليها منذ عام ونصف."

ويرى الباحث الحقوقي في مركز الميزان، باسم أبو جري، أنّ تدمير الاحتلال للقطاع الزراعي في غزة، وحرمان المزارعين من الوصول لأراضيهم، هو جزء من سياسة أوسع تتضمن تجويع ممنهج لسكان القطاع، يقول: "هذا خرق واضح للقوانين والمواثيق الدولية التي تضمن حماية الممتلكات الزراعية للمدنيين أثناء النزاعات المسلحة"، حيث يُفترض أن تكون الأراضي الزراعية محمية من الاستهداف المباشر. 

كما أنّ حرمان المزارعين من الحصول على مواردهم يفاقم معاناتهم اليومية ويؤثر بشكلٍ كبير على الأمن الغذائي في غزة الذي يصل انعدامه إلى مستويات حادّة وغير مسبوقة جرّاء الحرب الحالية؛ ما يزيد من حدّة الأزمة الإنسانية التي يعاني منها سكان القطاع.

يُردف أبو جري: "منذ بداية الحرب، استهدفت إسرائيل القطاعات الحيوية، خاصّة الزراعة"، يُردف: "جُرفت مساحات شاسعة، ودُمرت آبار المياه، واستولى الاحتلال على أراضٍ زراعية، خصوصاً في المناطق الشرقية والشمالية".

وبحسب أبو جري، فإنّ حرمان المزارعين من أراضيهم أفقدَ غزة جزءًا كبيرًا من سلّتها الغذائية. يضيف: "الكثير من المناطق كانت حصلت على مشاريع تنموية دولية حديثة – قبل الحرب- لتعزيز الزراعة". 

يتابع: "الآن، الخضراوات المتوفرة في الأسواق شحيحة، والأسعار مرتفعة، والناس عاجزون عن توفير أبسط احتياجاتهم". وذلك في فقدان 47 ألف مزارع لمصادر رزقهم، بينما ارتفعت أسعار الخضراوات الأساسية بنسبة 500%، مما أجبر 73% من الأسر على تقليل استهلاكها إلى أقل من حصة يومية واحدة، بينما تخلّى 41% عن شرائها تماماً.

أمام هذه الظروف، أصبح الجوع خياراً إجبارياً وليس حالة طارئة، خاصّة بعدما انهارت سلسلة القيمة الغذائية التي كانت توفر 38% من فرص العمل غير الرسمي في قطاع غزة، وفقًا لدراسة محليّة.

سماهر شاهين، المزارعة والناشطة في النقابة العامة للفلاحة، تؤكد أن الاستهداف الإسرائيلي للمزارعين ليس جديداً. "استمروا في إطلاق النار على المزارعين لسنوات"، تقول. 

ومع ذلك، يحاول المزارعون ألا تتوقف الزراعة تماماً خاصّة في ظلّ استمرار إغلاق المعابر وعدم دخول أيّة مواد غذائية ومساعدات إغاثية للسكان. تردف شاهين: "ما يصل الأسواق اليوم من خضار يأتي غالباً من مواصي خانيونس جنوب القطاع، حيث نزح مزارعون وأعادوا الزراعة في مناطق جديدة".

شاهين نفسها فقدَت خمس دونمات مزروعة بأشجار الحمضيات واللوزيات، بالإضافة إلى الجرجير والكوسا والبازيلاء، شرق خانيونس جنوب قطاع غزة. وكانت تعتمد على تسميد الأرض من أغنامها، مما منح منتجاتها تميزاً. تقول بنبرة حزينة: "حياتنا مختلفة، فالمُزارعة لا تستطيع العيش دون أن تزرع، لا تستطيع فك رباطها الوثيق بالفلاحة".

خلال الهدنة، حاولت شاهين ومُزارعات أخريات العودة إلى أراضيهن؛ لكن الجنود الإسرائيليين منعوهن، بل وأطلقوا النار على من حاول الاقتراب. تضيف: "حتى في فترة الهدنة، كان الوصول لأراضينا على الحدود الشرقية لخانيونس مستحيلاً".

لكن شاهين لم تقطع الأمل تمامًا، خاصّة بعدما وزعت مؤسسات محلية بذور على النازحين لمساعدتهم على الزراعة في أماكن إقامتهم المؤقتة. تتابع: "لقى المشروع نجاحاً، ووفرنا بعض الخضار للسوق، وساعدنا المزارعين على الاستمرار". 

في غزة، لم تعد الزراعة مهنةً فحسب، بل إصرارٌ على الحياة. كل بذرة تُزرع بين الركام ترسل إلى الأرض رسالةً واضحة هي: "سنعود". على الرغم من الدمار والنزوح، يمسك المزارعون بجذورهم كما تمسك أشجار الزيتون بأرضها. السؤال الوحيد الآن: هل سيبقى هناك ما يعودون إليه؟

 

موضوعات ذات صلّة:

هكذا أعادت الحرب الزراعة للعصر الحجري

حقول غزة تنبت تحت القصف

غزة: من عاصمة الفراولة إلى أرض جرداء 

بهذه الطريقة الكارثية: تحولت غزة إلى مدينة رمادية

الآثار الاقتصادية الناجمة عن تدمير القطاع الزراعي في قطاع غزة