بالصور: شاب ينجو من بطالة الحرب بالقهوة

بالصور: شاب ينجو من بطالة الحرب بالقهوة

في حي الرمال وسط مدينة غزة وتحديدًا شارع عمر المختار، حيث تتراكم أنقاض المباني على جانبي الطريق، يقف رشاد الصوالحي (28 عاماً) أمامَ كرفانه الأسود الصغير الذي اقتناه لبيع المشروبات الساخنة. يمسح بقطعة قماش سطح الكرفان اللامع، مُزيلاً طبقة الغبار التي خلّفها القصف الليلي، يقول: "بدأت هذا المشروع قبل ثلاثة أشهر".

 

خلف الشاب الصوالحي، يتراكم حطام محلين تجاريين كانا قائمين في المكان قبل الحرب. أصوات آليات الإنقاذ تعلو بين الحين والآخر، بينما يتجمع عدد من المارة حول الكرفان، بعضهم لشراء مشروب ساخن، والبعض الآخر يتبادلون آخر الأخبار عن أماكن القصف التي استهدفت الأحياء المجاورة في الليلة الماضية.

 

يدوي انفجار قريب، فيتوقف للحظة، ينظر باتجاه الدخان المتصاعد، ثم يعود إلى تحضير كوب الشاي لرجلٍ كبير في العمر يقف أمامه بصبر. لكن قبل أن يُنهي العمل، يسمع صراخًا من مسافة غير بعيدة، فيضع الكوب جانبًا، ويترك شقيقه يتولى المهمة، ويركض نحو مصدر الصوت، يُعقب: "هذا هو نمط الحياة في الحرب، فهذه ليست المرة الأولى التي أتحوّل فيها إلى مُنقذ.. طالما القصف مستمر فإنني أقضي يومي على هذه الشاكلة".

قبل اندّلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، كان الصوالحي يعمل بائعًا في أحد متاجر حي الرمال، لكنّ الحرب جعلته يتعطل عن العمل بعدما نزح هو إلى محافظات جنوب قطاع غزة، فأصبح واحدًا من بين 201 ألف مواطن غزي فقدوا وظائفهم، وفقًا لإحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

يقول الشاب: "نزوحي إلى جنوب القطاع لم يكن خيارًا بل اضطرارًا نتيجة شدّة القصف وانعدّام سُبل الحياة في شمال غزة"، وهناك، بين الخيام والمدارس المستخدمة كمراكز إيواء، وبعد شهور طويلة من العوز والإحباط والمعاناة حاول أن يخلق شيئًا يُشبه الحياة. افتتح كُشكًا صغيرًا لبيع الشاي والقهوة، وكانت تلك التجربة بمثابة الشرارة التي أعادت إليه إيمانه بقدرته على الصمود.

عندما عاد إلى مدينة غزة خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقت من يناير- مارس الماضيين، حمل معه فكرة "الكرفان الصغير"، تلك العربة الصغيرة التي صممها بنفسه مستخدمًا مهاراته في الرسم والتصميم التي نمّاها عندما كان يأمل يومًا أن درس هندسة الديكور فحالت بينه وبين حلمه ظروفه المادية السيئة. 

وفي التفاصيل حول تنفيذه التصميم الخاص بهذه العربة المتنقلة، اشترى الصوالحي ما تمكَّن من شرائه من أدوات لازمة بأسعارٍ تفوق سعرها الطبيعي عشرات المرات، حتى اكتمل صُنع "صندوقه الأسود" الذي أصبح اليوم مصدر رزقه الوحيد، كعربة لبيع القهوة والمشروبات الساخنة. 

 

تُظهِر البيانات الصادرة عن البنك الدولي ارتفاع أسعار المواد الغذائية في غزة بنسبة 437% منذ بداية الحرب، بينما انخفضت القوة الشرائية بنسبة 89% لدى عموم سكان قطاع غزة. يُترجم هذا الواقع عمليًّا في حياة هذا الشاب الذي يشعر بانعكاس الأرقام كل يوم. يوضح قائلًا: "علبة النسكافيه التي كانت تُباع بخمسة دولارات أصبحت بأربعين دولار، والسكر الذي كان زهيد الثمن لا يتجاوز سعره ثلاث دولارات تحوّل إلى سلعة فاخرة لا يستطيع الجميع اقتنائها".  

 

وفقًا لوزارة الاقتصاد في غزة، فإنَّ 95% من المنشآت التجارية تضررت بفعل الحرب الإسرائيلية الحالية، والخسائر الاقتصادية فاقت ملياري دولار، بينما يحتاج إعادة إعمار البنية التحتية إلى 25 مليار دولار. لكنّ الصوالحي لا ينتظر تعويضات إعادة الإعمار التي قد تطول كثيرًا. 

يُردف: "المعابر مغلقة لأجل غير مسمى، المواد الأساسية مثل الشوكولاتة والكابتشينو شبه مُنعدمة، لكنّه يعتمد على ما تبقى لديه من مخزون، أو يضطر للشراء من تجار يبيعون البضائع القليلة المتوفرة في القطاع بأسعارٍ خيالية نتيجة نُدرّتها.  

أصبحت "الكرستة" وجهة للكثيرين في الحي. يتابع: "بعضهم يأتي لشراء القهوة، وبعضهم لتبادل أطراف الحديث، وآخرون فقط يقتنون المشروبات ليشعروا أنّ الحياة لا تزال مستمرة". 

بين الزبائن، تظهر سميرة (20 عامًا)، طالبة جامعية كانت تدرس الإعلام قبل أن تُدّمِر الحرب جامعتها. تقول بينما تشرب كوب الشوكو الأخير الذي يملكه رشاد: "هنا أستعيد جزء من شكل حياتنا السابقة، وأشعر أنَّ شيئًا طبيعيًا لا يزال موجودًا".  

 

على الرغم من كل شيء، يحلم الصوالحي بتوسعة مشروعه. يُخرج من تحت الطاولة ورقة عليها تصميم لطاولات وكراسي سوداء مُذهبَة قليلًا أنيقة، يحلم بوضعها أمام كرفانه عندما تفتح المعابر وتتوفر المواد وتُصبح أسعارها في المُتاح. "سأضيف المشروبات الباردة، وسأجعل المكان أجمل"، يقول.

لكنَّ الحرب لا تترك مجالًا كبيرًا للأحلام. فاستمرار القصف وعمليات النزوح الدائمة لا تدع فرصة للاستقرار أمام الغزيين أو برهة لممارسة حياة شبه طبيعية، ومع ذلك يُصرّ رشاد على الاستيقاذ مُبكرًا وصنع قهوته الشهيّة ذات الرائحة النفاذة، ويستقبل زبائنه بابتسامةٍ مُشرقة، على الرغم من سوداوية المشهد من حولهم جميعًا.

في نهاية اليوم، يعود الشاب إلى بيته في حي النصر غرب مدينة غزة، سائرًا على الأقدام في الشوارع المحطمة وبين المباني المُدّمرة، حاملًا معه بعض النقود القليلة التي كسبها. يعرف أنّ الغد قد يجلب قصفًا جديدًا، أو نقصًا في المواد الخام، أو يحمل فقدًا جديد. لكنّه أيضًا يعرف أنّ "الكرستة" السوداء ستظلّ في مكانها، تصنع القهوة، وتذكر الجميع أن غزة لا تزال حية.