في بيتٍ آيل للسقوط بحي الدرج وسط مدينة غزة، تجلس السيدة سلمى رشاد مع أطفالها الثلاثة حول قدرٍ يغلي بالشوربة. بداخله، حفنة من أوراق السبانخ الخضراء، وبجانبها قماشة مهترئة خبأت فيها رغيفي خبز. تقول بسخرية مُرّة: "التراب أصبح طعامنا بعدما صرنا نشتري الطحين مغشوشًا بالرمل لقلّته ونُدرته".
منذ نحو شهرين، تحوّلت حياة سلمى إلى صراع من أجل البقاء في مواجهة جوع لا يرحم. فما تبقى لديها من الدقيق لا يكفي إلا لخبز بضعة أرغفة كل يوم، تُقسَّمها على أفراد أسرتها الخمسة. وحتى طفلها الأصغر، عمار، تبلّد شعوره بالجوع فلم يعد يُبكيه. تقول: "كلنا تأثرنا من الجوع، زوجي خسر أرتالاً من وزنه، وأنا أصبت بتقرحات في المعدة، والأطفال كبروا عمراً فوق أعمارهم".
حولهم، يعيش 1.95 مليون إنسان الكابوس ذاته، حتى أصبح مشهد الأطفال الذين يبحثون في القمامة عن بقايا طعام مشهداً مألوفاً، وآخرون يخلطون الدقيق بالأعلاف لتوفير قوت يومهم. حتى العصافير أصبحت طعامًا نادرًا للكثير من الأسر بعدما شحت أعدادها، فلم تعد تجد ما تأكله هنا.
في قطاع غزة، تحمل الشوارع المُدمرة والبيوت المحطمة آثارًا لصراعٍ لا ينتهي منذ 19 شهرًا؛ لكن اليوم، اجتمعت المآسي على السكان ليُصبح التحدي الأكبر ليس القذائف فقط، بل الجوع الذي يُهدّد حياتهم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
منذ مارس 2025، تحوّل القطاع إلى أزمة غذائية خانقة. فيما يُقدِّم التصنيف المرحلي للأمن الغذائي (IPC) صورةً قاسية لواقع الجوع، إذ يُفيد أنَّ 93% من السكان "نحو 1.95 مليون إنسان"، يعيشون تحت وطأة انعدام الأمن الغذائي، بينهم 244 ألفًا في مرحلة "الكارثة " (Phase 5)، فلا يجدون ما يسدّ رمقهم إلا ورقيات خضرية أو طحينًا مخلوطًا بالرمل.
ويعاني 925,000 شخص آخرين مصنفين في حالة "الطوارئ " (Phase 4) وتُشير التوقعات المستمرة خلال الفترة من 11 مايو إلى 30 سبتمبر 2025، إلى أنَّ جميع سكان غزة سيعانون من "أزمة" (Phase 3) أو أسوأ، مما يزيد الوضع سوءًا.
في قسم المبيت من مستشفى أصدقاء المريض غرب مدينة غزة، يُقاس أوزان الأطفال الهزال الذين لا يتجاوزون السنتين. أجسادهم نحيلة، وعيونهم غائرة تبدو أكبر من وجوههم. الطبيب يُمسك بأيديهم، ثم يُشخص الحالات بأنها "سوء تغذية حادّ". فيما يتكرر هذا المشهد 11 ألف مرة منذ بداية العام، وفقًا لليونيسف.
على أحدّ الأَسِرَّة تجلس الطفلة "مي" ذات السبعة أعوام، عينيها مغمضتين وكأنّها غارقة في سباتٍ طويل. والدتها، السيدة نادية أبو عرار، تُراقبها بعينين مليئتين بالقلق والألم، وتقول: "مي لم تعد قادرة على الحركة أو الأكل كما كانت في السابق".
فقدَت الطفلة شهيتها تمامًا، وتحوّلت حياتها إلى حالةٍ من الخمول التام فلم تعد تقوى على فعل أي شيء. تُردف والدتها بأنها بدأت تلاحظ تغيرات في حالة مي بعد شُح المواد الغذائية في غزة، فتعرّضت الطفلة لنقصٍ حادّ في البروتين، ما أدّى إلى تورم قدمها.
"كانت تأكل الطعام المُقدَّم في المستشفى، زبدة الفول السوداني والأرز، أو حتى حبة بندورة إذا توفرت، لكنّها لا تفي بالغرض." لم يعد الطعام الذي تحصل عليه مي كافياً لتعويض نقص العناصر الغذائية الأساسية في جسدها، فيما يزيد الوضع سوءًا مع استمرار إغلاق المعابر ومنع وصول المساعدات من 11 شهرًا.
كما هو الحال مع مي، يعاني آلاف الأطفال في غزة من سوء التغذية الحادّ، حيث يُشير رئيس مستشفى النصر للأطفال، جميل سليمان، إلى أنَّ معظم الأطفال الذين يعانون من هذه الحالة لم يتلقوا الطعام المناسب الذي يحتاجونه لنموهم وتطورهم.
ويُعرب سليمان عن قلقه العميق من التأثيرات الصحية المدمرة للحصار المستمر على الأطفال في غزة. يقول: "إن نقص الغذاء الأساسي مثل الحليب، اللحوم، والبروتينات أدى إلى زيادة حالات سوء التغذية الحادّة، مع تعرض الأطفال لمشاكل صحية خطيرة مثل الأنيميا ونقص المعادن"؛ ما يهدد نموهم الجسدي والعقلي.
ويحذر من أن استمرار الوضع سيؤدي إلى زيادة معدلات الوفيات بين الأطفال؛ ما يعمق المأساة الإنسانية التي يواجهها القطاع. وبينما تبلغ نسبة سوء التغذية بين الأطفال دون الثانية في شمال قطاع غزة، 15.6%، تحوّلَت عيادات الرعاية إلى آخر أمل متبقي للمرضى. "نفقدهم واحدًا تلو الآخر"، يقول الطبيب سليمان.
تُشير إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أنَّ 57 طفلًا ماتوا جوعًا منذ مارس. بينما تؤكد منظمة الصحة العالمية أنّ 71 ألفًا آخرين دون الخامسة قد ينضمون إلى قائمة المصابين بسوء التغذية بحلول نهاية العام. "حتى عندما نجد الطعام، فهو غير كافٍ أو فاسد"، تقول المواطنة فاطمة طارق، التي باعت مصاغها لإنقاذ أسرتها من الجوع.
تُحاصر المجاعة سكان قطاع غزة في ظلّ أرقام صادمة تكشف عن عمق الكارثة الإنسانية التي يعيشونها، فقد اضطرت فاطمة طارق، وهي أم لسبعة أطفال، إلى تقليص وجبات أسرتها إلى وجبة واحدة فقط يومياً، في محاولة يائسة للتكيّف مع النقص الحادّ في الغذاء.
تقول طارق وهي تحاول إعداد طعام أبنائها: "هذا الأمر أصبح يتكرر كثيرًا، لم يعد لدينا خيار سوى تقبّل الجوع كجزء من يومنا"، بينما تزداد أسعار ما تبقى من سلع في السوق لتصل إلى 300-500% مقارنة بأسعارها قبل الحرب، مما يجعل الحصول على أبسط الاحتياجات صعبًا للغاية.
وتُظهٍر الأرقام الواردة في ورقة بحثية صدرت عن مؤسسة "مينديرو" في مايو الماضي معنونة بـ "انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة" حجم المأساة، حيث يبلغ متوسط احتياج البالغين اليومي من السعرات الحرارية 2,500 سعرة حرارية، بينما يحتاج الأطفال إلى 2,100 سعرة حرارية يومياً. لكن الواقع يُشير إلى عجز يومي إجمالي في السعرات الحرارية بجميع محافظات القطاع يُقدّر بـ 459,050 سعرة حرارية؛ مما يضع السكان أمام تحدٍّ يومي للبقاء على قيد الحياة.
وفي 25 أبريل الماضي، صرّحت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، أنّ "استنفدنا جميع مخزونتنا الغذائية في غزة، حيث تمنع إسرائيل وصول المساعدات الإنسانية منذ أكثر من شهرين".
كذلك، في 13 من مايو الحالي، حذَّر تقرير مشترك من منظمة الفاو، وبرنامج الأغذية العالمي، واليونيسف من: "خطر المجاعة الوشيك في غزة، مع ارتفاع معدلات سوء التغذية والوفيات، نتيجة الحصار المستمر وحرمان السكان من الغذاء والمياه والرعاية الصحية".
وتعكس معاناة فاطمة وأسرتها صورة مصغرة عن معاناة مئات الآلاف في القطاع، حيث ترتفع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وتنعدم فرص تحسين الأوضاع في ظلّ استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية.
لا تقتصر معاناة السكان في القطاع على نقص الغذاء؛ بل تمتد إلى انهيار شبه كامل لشبكات الأمان الاجتماعي، مما يترك الأسر تُواجه المصير المجهول بقوة إرادتها فقط، بعد توقف المساعدات الدولية والحكومية والدعم الاجتماعي والخيري، بينما تزداد الاحتياجات الإنسانية بشكلٍ يفوق قُدرات أيّ جهود إغاثية.
هذا العجز الواضح في توفير وجبات غذائية صحيّة لسكان القطاع ينعكس بقوة في انهيار مستويات الأمن الغذائي؛ وبحسب مختصون فإنّه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدمار الحاصل في القطاعات الاقتصادية داخل غزة لا سيما قطاعي الزراعة والصيد الذي أعادت الحرب الإنتاج فيهم إلى أشكال من العصور الوسطى.
قبل اندّلاع الحرب الإسرائيلية الحالية في أكتوبر 2023، كانت الحقول الغنّاء في عموم محافظات قطاع غزة تزخر بأشجار الزيتون والحمضيات، بينما أصبحت اليوم، 80% من هذه الأراضي مدمرة وخرجت من دائرة الإنتاج الزراعي، بفعل ممارسات الاحتلال.
المتحدث باسم وزارة الزراعة في غزة محمد أبو عودة، أفاد أنّ آليات الاحتلال الإسرائيلي دمّرت آلاف الأشجار من الزيتون بما نسبته 75% من أشجار الزيتون، وقال: "هناك خسارة اقتصادية هائلة مترتبة على ذلك، لا سيما في تدّاعيات إنتاج زيت الزيتون أيضًا نتيجة هذا التدمير الكبير".
وأردف: "أصبحت الأرض مقبرةً للمحاصيل فالكثير من الأراضي الزراعية فقدت قدرتها على الإنتاج تمامًا وأصبحت بحاجة لتأهيل وتخصيب قد يمتد لسنوات"، وبينما كان قطاع غزة يُنتج 30% من احتياجاته الغذائية، اليوم لم يعد قادرًا على إنتاج القمح لتوفير الخبز.
بالإضافة إلى ذلك، لم يكن قطاع الصيد أفضل حالًا. أكثر من ألف قارب دُمّرت، والبحارة الذين كانوا يُعيلون أسرهم بصيد السمك، يقفون على الشاطئ يحدّقون في بحرٍ أصبح سجنًا. "الأسماك تسبح بعيدًا، ونحن نموت جوعًا"، يقول الصياد نايف أبو ريالة، بينما يشير إلى حسكته المُدمّرة.
ووفقًا للمختص الاقتصادي أحمد أبو قمر فإنّ تدمير القطاع الزراعي والسمكي في قطاع غزة، يُعد أحدّ أهمّ العوامل المؤثرة في تفاقم أزمة انعدّام الأمن الغذائي، بالإضافة إلى استمرار إغلاق المعابر منذ مارس المنصرم، وارتفاع أسعار الدقيق بنسبٍ هائلة.
أمام بابٍ مُغلق، في شارع عمر المختار بحي الرمال وسط مدينة غزة، تتعالى الأصوات ويتدافع عشرات الأشخاص حاملين آنية فارغة، في انتظار السماح لهم بتعبئتها من تكيةٍ خيرية أعدّتها إحدى المبادرات الإنسانية المحليّة.
من بين هؤلاء تقف نسمة وادي، وهي أم لأربعة أطفال، تُزاحم الآخرين كيلا تفرغ القدور قبل أن تنال نصيبًا تُطعم به أسرتها هذا اليوم. "حتى الخبز لم يعد موجودًا وصارت العائلات تُخفيه عن بعضها"، تقول، بينما تمسك بقدرها الفارغ.
تُردف نسمة وهي أرملة تعمل مساعدة لسيدة أخرى في خبز الأرغفة على فرن طين، "كُنا نأخذ ثلاثة شواكل مقابل خبز رغيفين، أما اليوم بعدما نفد الدقيق من عندنا، أصبحنا نأخذ رغيف لقاء خبز كل 5 أرغفة".
وتُشير السيدة التي لم تعد تقوَ على الوقوف طويلًا بعدما أصابها الجوع بنحولٍ شديد، إلى أنّ قطع المساعدات واختفاء وجود التكايا من بعد انتهاء شهر رمضان وغلاء أسعار السلع تسبب لها بأزمة مادية فائقة لا تستطيع تجاوزها.
وجرّاء طول أمد الحرب واستمرار عمليات النزوح، أصبحت الكثير من الأسر، التي فقدت مصادر رزقها تعتمد في غذائها على التكية بشكلٍ كامل نظرًا لغلاء الطعام الموجود بالأسواق إن توفر؛ لكن اليوم حتى هذه التكايا أصبحت محدودة ونادرة جدًا.
"الكمية محدودة والدعم الخارجي انخفض جدًا بعد انتهاء شهر رمضان"، يقول سامي شخصة أحد العاملين على تكايا توزيع الطعام في مدينة غزة. يُتابع: "ننفق ساعات في إقناع الأهالي بأنّ كل شخص لن يستفيد إلا من طبق واحد".
وبينما كان برنامج الأغذية العالمي يوزّع مليونًا و80 ألف وجبة يوميًا حتى أبريل الماضي في عموم قطاع غزة. انخفض العديد بعد أسبوعين فقط إلى 412 ألفًا نتيجة استمرار الحصار المطبق على السكان؛ الأمر الذي يعكس التأثير المُدّمِر لاستمرار الحصار على القدرة الإغاثية والقدرة على توفير الغذاء الضروري.
ومن ناحية قانونية، يُعد استمرار إسرائيل في إغلاق المعابر أمام دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، خاصةً اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم القوة المحتلة بضمان وصول الغذاء والدواء للسكان المدنيين.
وفقًا للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يعيش سكان غزة في ظروف إنسانية قاسية نتيجة الحصار المستمر، ما يزيد من معاناتهم اليومية. وقد أدانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" هذه السياسة باعتبارها عقابًا جماعيًا، بينما حذر مجلس حقوق الإنسان من استخدام التجويع كأداة حرب باعتباره جريمة ضدّ الإنسانية، مطالبًا المجتمع الدولي بالتحرك لرفع الحصار فورًا.
وكما قال الطبيب جميل سليمان، رئيس مستشفى النصر للأطفال: "نحتاج إلى وقف فوري للحصار، وفتح المعابر، وإدخال الأدوية قبل فوات الأوان". في غزة، لم يعد السؤال "هل سننجو؟" بل "كم من الوقت يمكن لجسم الإنسان أن يُقاوم دون طعام؟"، فالجوع هنا يقف فاغرًا فاه يقطف أعمار المزيد من الضحايا."
موضوعات ذات صلّة:
السكان يلوكون أعلاف الطيور بسبب الجوع
التكيّة: قِدر واحد لإخماد جوع آلاف الأمعاء
الطحين الفاسد على موائد الجائعين
في زمن المجاعة: صيد الطيور ضرورة!
هكذا أعادت الحرب الزراعة للعصر الحجري
من لم يقتله القصف قتله الجوع في غزة
غزة في المرحلة الخامسة.. كارثة المجاعة
الجوع في قطاع غزة