تمشي دينا عبد الرحمن (35 عامًا) تحت وهج الشمس الحارقة، تبحث في كل صيدلية تدخلها عن علاج محدّد، تتوقف كل بضعة أمتار لتمسح العرق المتصبب من جبينها، ثم تعاود السير بخطى ثقيلة. تطرح السؤال نفسه: "هل لديكم إبر كليكسان؟" بينما الصيادلة يهزون رؤوسهم بالنفي.
بعد ساعة من البحث بين أنقاض المباني المُدَمرة في حي النصر غرب مدينة غزة، وجدت أخيرًا ما تبحث عنه، لكنَّ الصيدلي أضاف معلومة واحدة جعلتها تتوقف للحظة: "الإبر المتوفرة منتهية الصلاحية".
وقفت عبد الرحمن حائرة، تُحدِّق في العلب الصغيرة الموضوعة على رّف الصيدلي الخشبي. سعر كل إبرة 25 شيكلًا، وهو مبلغ يفوق قدرة زوجها الذي يعمل موظفًا حكوميًا ولم يتقاضَ راتبه منذ ثلاثة أشهر؛ لكنّها مُضطرة لاستخدام واحدة يوميًا لإنقاذ حملها رغم غلاء ثمنها وانتهاء صلاحيتها.
شعرت السيدة بالخوف والقلق إزاء تناول إبر منتهية الصلاحية، فاتصلت بطبيبها، ليُخبرها بأنَّ فعالية الدواء ستكون أقلّ، مع وجود هامش ضرر على الجنين لكنّه "ليس كبيرًا." تردّدت قليلًا لكنها قررت أخيرًا الشراء فلا خيار آخر أمامها.
آلاف المرضى في قطاع غزة يتشاركون معاناة نقص الأدوية في غزة، فمنذ أن أغلقت إسرائيل معابر القطاع في مارس الماضي، حُرِم آلاف المرضى من الأدوية الأساسية.
ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة، نفد 229 صنفًا دوائيًا بالكامل، بنسبة 37%، بالإضافة إلى نفاد 596 صنفًا من المستلزمات الطبية، أيّ ما يعادل 59%.
وطالت أزمة نفاد العلاجات، أدوية السرطان وأمراض الدم أولًا، ثم امتدّت إلى 40% من أدوية الكلى والغسيل الدموي، و24% من أدوية الصحة النفسية، و23% من أدوية الجراحة.
في خانيونس جنوبي القطاع، تجلس بسمة عزيز (52 عامًا) تحاول التقاط أنفاسها. تعاني من الربو، لكن أزمتها تفاقمت بسبب الدخان المتصاعد من المواقد البديلة التي تعمل على النار بعد انقطاع غاز الطهي.
وعندما نفد بخاخ عزيز العلاجي، بحثت في صيدليات المدينة دون جدوى، حتى عثرت على واحد في شمال قطاع غزة. تقول بأنفاس متلاحقة قليلًا: "وجدّت العلاج بشقّ الأنفس لكنه مع الأسف كان منتهي الصلاحية؛ ومع ذلك اضطررت لاستخدامه لأنني لم أجد غيره".
لكنّ ليس جميع المرضى مستعدون للمخاطرة باستخدام علاجات انتهت تواريخ صلاحية إنتاجها. إسماعيل نصار (27 عامًا)، الذي أصيب بشظايا في قدمه جرّاء قصف إسرائيلي، رفض تناول مضاد حيوي منتهي الصلاحية أحضره بعد بحث مضنٍ.
وقال نصار: "أنا من الأشخاص الذين لديهم وسواس من المرض، فكيف إذا استخدمت دواء منتهي الصلاحية، سأظل أتوهم بأعراض مرضية"، يُردف وهو يدهن مرهمًا على جروحه الملتهبة: "أعدت المضاد الحيوي لكنّي قبلت ببقاء المرهم بعد تأكيد الصيدلي أنَّ لا ضرر منه سوى أنّ فعاليته ستعمل بعد وقتٍ أطول".
أما هيام منصور (57 عامًا)، فلم تكتشف أن قطرة العين التي اشترتها منتهية الصلاحية إلا بعد فوات الأوان. تقول: "فوجئت عندما عدت للبيت بانتهاء صلاحية الدواء لكنّ عيني كانت تؤلمني جدًا فأُجبرت على استخدامها".
بعد أيام من الاستخدام، زاد التهاب عينها، فبحثت على الإنترنت عن مخاطر الأدوية المنتهية. تُردف: "وجدت أنّها قد تسبب عدوى وحينها توقفت فورًا واستبدلتها بكمادات ماء بارد".
ويُشكِّل إغلاق المعابر وحرمان مرضى قطاع غزة من الأدوية الأساسية انتهاكًا صارخًا للحقّ في الصحة الذي تكفله المواثيق الدولية، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية جنيف الرابعة.
ووفقًا للقانون الدولي الإنساني، في المادة 23 من اتفاقية لاهاي لعام 1907، فإنّه "يُمنع تدمير أو مصادرة الممتلكات العامة في الأراضي المحتلة، بما في ذلك الممتلكات الطبية، ولا يجوز للمحتل منع وصول الإمدادات الطبيّة للمواطنين المدنيين."
بموجب هذه الاتفاقيات، يُلزم الاحتلال بتوفير الرعاية الصحية للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة، بما في ذلك الأدوية اللازمة لعلاج الأمراض المزمنة والطارئة.
وبالتالي، يرى حقوقيون أنّ استمرار الحصار الإسرائيلي وتقييد الوصول إلى الأدوية يشكل خرقًا لالتزامات الاحتلال، ويعرّض حياة المرضى للخطر ويعرضهم لمخاطر صحية جسيمة نتيجة للاستخدام القسري للأدوية منتهية الصلاحية.
في خضم هذه الأزمة المستمرة، حاولت مراسلة "آخر قصة" التواصل مع مدير عام الصيدليات في وزارة الصحة زكري أبو قمر؛ للتعرّف على إجراءات الرقابة التي يُناط بهم القيام فيها على الأدوية المنتهية، اعتذرت الدائرة الإعلامية عن الإدّلاء بأيّ تصريح، مشيرة إلى أنّ الأولوية لديها الآن هي الحديث عن النقص الحادّ في الأدوية والمستهلكات الطبيّة.
ويثير ردّ وزارة الصحة العديد من التساؤلات في ظلّ أزمة الأدوية المستمرة وغياب التوجيهات الوزارية حول آلية التعامل مع هذا الوضع؛ الأمر الذي قد يُعرّض المرضى لخطر استخدام أدوية غير فعالة أو حتى مُلوثة، خاصّة جرّاء الانتهاك الواضح لحقوق المرضى وغياب الإمدادات الطبيّة الأساسية.
أمام هذا التحدي، يقف الآلاف من المرضى في غزة عاجزين عن توفير أدويتهم مع حاجتهم الشديدة لها، واضطرارهم لاستخدام أدوية منتهية الصلاحية.
وتعقيبًا على ذلك حذرت الصيدلانية سحر الطويل من مخاطر تناول أدوية منتهية الصلاحية، وقالت إنّ غياب علامات التلف الظاهرية لا يعني أن الدواء آمن، إذ قد تحدث تغيرات كيميائية غير مرئية.
وبحسب الطويل، فإنّ علامات تلف الأدوية تظهر في الأقراص والكبسولات باكتسابها بقعًا أو روائح غريبة، بينما تتغير ألوان الأدوية السائلة ويصبح فيها رواسب وطبقة زيتية عندما تنتهي صلاحيتها وهي أكثر عُرضة للفساد من غيرها.
أما الكريمات والمراهم تتلف عندما يصبح قوامها غريبًا فهي الأكثر عُرضة للتلف من بين الأنواع الأخرى، وإذا تلفت تفقد تأثيرها العلاجي وتُسبِب تهيجًا جلديًا بسبب تغيُّر قوامها أو تركيبها.
كما تُعد القطرات والحقن أخطر أنواع الأدوية إذا فسدت، إذ إنّ فقدان التعقيم فيها قد يؤدي إلى التهابات خطيرة، مما يجعلها غير آمنة على صحة المرضى.
على الرغم من ذلك، تقول الطويل إنّ بعض الأدوية، مثل المضادات الحيوية، قد تبقى صالحة لمدة أسبوعين بعد انتهاء صلاحيتها إذا لم تظهر عليها علامات فساد؛ لكن القرار النهائي يجب أن يكون بيد الطبيب، الذي يزن المخاطر مقابل الفوائد.
اليوم، يدور آلاف المرضى الغزيين في نفس الحلقة المفرغة مع أوجاعهم في ظلّ نفاد الأدوية من قطاع غزة جرّاء استمرار إغلاق المعابر: أمراض مزمنة، أدوية نادرة، وصلاحية منتهية. فيما تكشف الأزمة عن انتهاك صارخ لحقوق المرضى، بينما يبقى مصيرهم معلقًا بين الحاجة الملحة والحصار المستمر.
موضوعات ذات صلّة:
حرب غزة: أثار قاتلة على مرضى الفشل الكلوي
بلا علاج: مرضى "الدم" يصارعون الموت
الحمل والولادة في غزة: رهان على الحياة
130 طفلاً يولدون يومياً بلا رعاية
مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر
واحدة من تداعيات الحرب: الصحة الجسدية تتهاوى