يتمدد فايز حسن على فراشه البالِ، يضغط بقبضة يديه على بطنه التي تشنجت فجأة بعد تناوله قطعة خبز يابسة. يتصبب عرقًا، تتصاعد أنفاسه بشكلٍ متقطع، بينما تملأ رائحة الدقيق المُسوّس الغرفة، فتُصيبه بالغثيان مراتٍ عديدة، وبعد ثلاث ساعات من المعاناة، يستسلم أخيرًا ويُقرر الذهاب إلى المستشفى.
لم يكن يعلم فايز (44 عامًا) أنّ كيس الدقيق الذي ظفر به بشق الأنفس بعد دفَعَ مُقابل 150 دولارًا (نحو 550 شيكل)، سيُصيبه بالتسمم. يقول وهو يفرك جفنيه المُتعبين: "لم أكن أعرف أنّه طحين مسوِّس ولا يصلح إلا طعامًا للحيوانات؛ لكن الآن تورطت ولا يوجد بديل فماذا أفعل؟".
مع استمرار إغلاق الاحتلال الإسرائيلي لمعابر قطاع غزة منذ مطلع مارس الماضي بالتزامن مع الحرب، تحوّلت أكياس الطحين الفاسد إلى "خيار" اضطراري للسكان الذين يفتقرون إلى المساعدات، فيما أن السلع الأساسية باتت باهظة الثمن.
الطحين الرمادي، ذو الرائحة النفاذة، بات يُباع في السوق السوداء بأسعارٍ تصلّ إلى أكثر من 100 ضعف سعره الطبيعي. ومع إعلان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" وبرنامج الأغذية العالمي نفاد إمدادات الطحين والمواد الأساسية في مخازنهما بقطاع غزة في أبريل الماضي، أصبحت العائلات تُواجه معادلةً قاسية: إما الجوع، أو الخبز المسموم.
يجلس فايز، الذي عاد من المستشفى بعد حقنٍ مسكنة، أمام كيس الطحين التالف. ويقول محدقا فيه: "سأخبزه مرةً أخرى، على الأقل سيملأ بطون أطفالي الأربعة لبعض الوقت".
يُشير الرجل بيده إلى رفوف مطبخه الخاوية ويتساءل، "لا يوجد لدينا مؤنة ولا بقوليات، فهل سيحرموننا من خبزٍ حاف أيضًا!"، فيما حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، من أنَّ أكثر من مليون شخص يُعانون نقصًا حادًا في الغذاء، بينهم 10 آلاف طفلٍ مصابون بسوء التغذية، وهو ما يُفسر ارتفاع نسب الحالات المُصابة بسوء التغذية الحادّ لثلاثين ضِعفًا من 1,2% قبل الحرب، إلى 31,1%.
في غزة، هذه المعاناة ليست مجرد إحصاءات جافة؛ بل تحوّلت إلى قصصٍ ملموسة، وهو ما حدث مع سلوى أحمد، امرأةٌ في الخمسينيات تُعاني من جرثومة المعدة، واضطرت إلى شراء كيس طحينٍ، اكتشفت لاحقا أنه مخلوطٍ بالرمل.
"بعد أول قضمة، شعرت وكأنّني أمضغ حصى"، تقول سلوى، التي أُصيبت مع أطفالها الثلاثة بتقلّصاتٍ معويةٍ حادّة.
أما حنان عبد اللطيف (60 عامًا)، فحاولت بكل الطرق تحسين طعم الطحين الفاسد، بوضعه تحت أشعة الشمس على أمل التخلص من رطوبته. أضافت إليه الفانيلا، بل وحتى حبات اليانسون. تُعقب حنان: "الرائحة أصبحت مقبولة إلى حد ما، لكن الألم لم يختفِ خاصّة على زوجي المُصاب بأمراضٍ مزمنة".
أمام هذا التحدي قالت عبد اللطيف إنها ستضطر لاعتماد الأرز طعاما بديلا عن الخبز، إلى إشعارٍ آخر.
وتُشير التقدّيرات غير الرسمية إلى أنّ 30-40% من العائلات في محافظات قطاع غزة استهلكت طحينًا أو خبزًا مشكوكًا في صلاحيته، وذلك في ظل غياب كافة اشكال الرقابة الرسمية على السوق.
المواطنة منال حسن (36 عامًا) كانت من ضمن هذه العائلات أيضًا. تجلس منال أمام فرن الطين لخبز الأرغفة، وعلى الرغم من رائحة الدُخان الناتج عن إشعال الحطب إلا أنَّ رائحة التلف التي تصيب العجين مسيطرة على المكان.
اشترى زوج منال الذي يعمل على بسطةٍ وسط شارع النصر غرب مدينة غزة، كيس الطحين من زبونٍ عابر بقيمة (600 شيكلًا)، وهو ما يُعادل قيمة دخله خلال شهرٍ كامل. وقالت إنّ أسرتها مضطرة في ظلّ فقدان هذا المبلغ، لتجرع مرارة الخبز التالف.
مواطنون كُثر اشتكوا وقعوهم في هذه الحلقة المفرغة، فمع انهيار الاقتصاد الغزّي، لم يقتصر تداول الطحين المُلوث بين الناس على الخفاء، فقد أصبح يُباع ويُشترى على العلن، وكثيرًا ما يَمر الباعة المتجولون في أرجاء مدينة غزة يطلبون شراء الطحين الفاسد عبر مكبرات صوتية: "الي عنده طحين مسوّس للبيع؟".
العديد من هؤلاء الباعة يشترون الطحين غير الصالح للاستهلاك ويُفرغونه في أكياسٍ جديدة، ثم يبيعونه دقيقًا مغشوشًا للناس، ووفقًا لإفادة مواطنين تعرضوا للغش والاستغلال، ولم يتمكنوا من إرجاعه إلى بائعيه، واسترداد أموالهم.
خبيرة التغذية ميرفت حمّاد حذّرت بدورها، من أنّ أضرار تناول الطحين المغشوش تتجاوز التسمم الغذائي المُؤقت. تقول: "الطحين الفاسد يحتوي على بكتيريا وفطريات تسبب التهاباتٍ معويةً مزمنة، وتؤدي إلى تلف جدار الأمعاء"؛ ما يتسبب في سوء امتصاص الغذاء، ويزيد من معدلات سوء التغذية الموجودة أصلًا، وفق تأكيدها.
"أما الأخطر هو الطحين المخلوط بالرمل أو الجبص، الذي يسبب خدوشًا ونزيفًا داخليًا قد يتطور إلى قرحٍ معوية"، بحسب حمّاد.
كما يُؤدي تناول الطحين المُلوث لفتراتٍ طويلة إلى الإصابة بالتسمم بالأفلاتوكسين الذي يقف وراء الإصابة ببعض أنواع من السرطانات ويتسبب بمشاكل أخرى في الكبد. مما يُؤدي إلى تدهور القيمة الغذائية للأطعمة، ويُعرِّض الجسم لنقصٍ غذائي وضعف مناعة.
"أين المسؤولون عن محاربة هذا الغش والاستغلال؟" يتساءل الكثير من السكان. السؤال نفسه طرحته مراسلة "آخر قصة" على محمد بربخ، مدير الرقابة وحماية المستهلك في وزارة الاقتصاد. الذي بدوره أكّد أنَّ فِرق الوزارة تُصادِر يوميًا كمياتٍ محدودةً من الطحين الفاسد؛ مشيرًا إلى أنّ مُعظمه يُباع سرًا.
"حتى الآن، ضبطنا 26 كيسًا، لكن لا أحد يعترف بمصدرها"، قال بربخ. وأوضح أنَّ الكيس الواحد من الكمية المضبوطة بِيعَ بـ 300 شيكل (نحو 80 دولارًا)، بينما أفاد مواطنون أنّهم اشتروه بنحو 800 شيكل، وهو سعرٌ يُضاهي ثمن أربعة عشر كيس طحينٍ سليمة زنة 25 كغم قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023.
إفادات المواطنين تتقاطع مع ارتفاع أسعار الكثير من السلع في السوق، إذ تُشير بيانات البنك الدولي إلى أنَّ أسعار المواد الغذائية قفزت بنسبة 437%، وانهارت القوة الشرائية لدى سكان القطاع بنسبة 89%.
وينعكس تردّي الأوضاع المعيشية لعموم سكان قطاع غزة بوضوح على ظروفهم الاقتصادية بعد تنامي معدّل البِطالة إلى 82% جرّاء الحرب، وانتشار العمل على بسطاتٍ في الشوارع العامة، فيما يُعاني مئات الآلاف من الموظفين في القطاعين الخاصّ والعام من تقطع رواتبهم، وصعوبة حصولهم عليها نقدًا إلا بعد دفع عمولات لمكاتب الصرافة تتجاوز ثلث أجورهم أو أكثر.
وفي ظلّ غياب فاعل لدور الجهات الرسمية المحليّة، وصمت المنظمات الدولية، يبقى السؤال: هل من حلٍ غير انتظار كارثةٍ صحيةٍ جديدة؟
موضوعات ذات صلّة:
غياب الرقابة والمجاعة تعززان انتشار الأطعمة المغشوشة
الحرب عطلت القوانين: المستهلكون ضحايا فوضى السوق
سكان غزة يضطرون لاستخدام الطحين الفاسد