الغزيون يكافحون البعوض بالخل والصابون!  

حرب خفيّة: طنين ولدغات

الغزيون يكافحون البعوض بالخل والصابون!  

في خيمةٍ بالكادّ تحجب نسمات الهواء البارد، تجلس شوق الأشرم (23 عامًا) تراقب أنفاس أطفالها الثلاثة الذين يغفون في نومٍ مضطرب. ينتفض صغيرها محمد ذي الثلاث سنوات، فتُضيء كشاف هاتفها المحمول وتتحسس قطعة شاشٍ مُبللة وضعتها بجانبها، لتبدأ تمسح بها ببطء على جسده الملتهب من أثر لدّغات البعوض التي تحوّل جسده الصغير إلى خريطة من البثور الحمراء.

تقول الأشرم بصوتٍ منهك: "أرش الخيمة بمياه مُضاف إليها بعض الخل والصابون أحيانًا. لكنها معركة خاسرة". تُردف: "الليل هنا كابوس لا ينتهي"، ليس بسبب أصوات القذائف التي لا تتوقف، بل بسبب "أسراب البعوض الذي يحوم كسحابة سوداء". هنا، في مخيمات النزوح المؤقتة بشارع الجلاء، تحوّل البعوض إلى عدوٍ غير مرئي، لا يقل فتكًا عن الحرب ذاتها.

مروة صبح (32 عامًا) هي سيدة أخرى تواجه معاناة مشابهة، حيث لم تكن تتخيل أنّ خيمة النزوح التي تتقاسمها مع خمس عائلاتٍ أخرى ستصبح ساحة لمعركة يومية ضدّ حشرات لا ترحم. "كيف نعيش في فصل الربيع هكذا؟ الصيف لم يأتِ بعد، والبَعوض يتكاثر كأنّه مرض حائم"، تقول مروة بينما تُحاول إبعاد الذباب عن وجه طفلتها الرضيعة.

ووفقا لبلدية غزة، هناك 175 ألف طن من النفايات المتراكمة تحت الأنقاض، و80% من شبكات الصرف الصحي المُدمرة تُحوِّل الشوارع والمناطق السكنية إلى مستنقعات مفتوحة، وهو ما يزيد من تفشي الأمراض والأوبئة في المدينة.

وبحسب مختصو البيئة فإنّ المياه الراكدة المختلطة بمخلّفات الحرب الإسرائيلية التي طال أمدّها على قطاع غزة (أكتوبر 2023- الآن)، أصبحت حضانة مثالية لتكاثر الحشرات إذ تفقس يرقات البعوض يوميًا، أعداد تفوق قدرة المبيدات البدائية على الاحتمال.

ووفقا لتقارير ودراسات طبية سابقة، فأن البعوض يحمل الفيروسات المسببة لأمراض معينة؛ مثل فيروس غرب النيل والفيروسات المسببة للملاريا والحمى الصفراء وحمى الضنك إذ يحمل البعوض الفيروس أو الطفيل عن طريق لدغ شخص أو حيوان مصاب به.

واقع غير صحي بالمطلق، فكل كيس نفايات غير مجمّع، وكل أنبوب صرف صحي مدمر، هو بوابة لمأساة صحية جديدة، فتلك النواقل توزع الأمراض فوق رؤوس 1.7 مليون نازح من أصلّ 2.3 مليون نسمة يقطنون في قطاع غزة تحت ويلات الحرب.

لكن النساء الحوامل هُن الأكثر هشاشة في هذه المعادلة. أم محمد (28 عامًا)، تصف ليلها بأنّه "تعذيب مزدوج": "الحرب في كفة والبعوض في كفةٍ أخرى، أحمل تحت قلبي طفلاً، وفوق جلدي مئات اللدغات". 

تُردف بشيء من التوتر: "'الناس يعتقدون أن همومنا تبدأ وتنتهي بالقذائف. لكن عندما أتحدث عن خوفي على جنيني من التهابات وتلوث قد تسببها لدغات البعوض، يردون: على الأقل أنتِ حية! كأنّنا نعيش حياة صحية ومتكاملة".

في خضم هذه الأزمة، يحاول البعض ابتكار حلولٍ لأجل التخلّص من هذه الآفة المُعقدة. بين أزقة المخيمات المقامة غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، أصبحت "وصفات المكافحة الشعبية" سلعة ثمينة.

يصرخ بائع متجول: "خلطة سحرية ضدّ البعوض". وعلى الرغم من أنّ المشترون يعلمون أنها غير مجدية، لكنهم يشترون الأمل الوهمي في مكافحة عدوهم الخفي.

عمر عاطف (45 عامًا) من خانيونس يعرف أن معركته مع البعوض خاسرة مسبقًا. جرب كل شيء: اللاصقات، الكريمات، حتى الخلطات الشعبية بالعسل والبابونج. "هذه الحرب لا تُهزم بالأعشاب"، يقول وهو يشير إلى زقاق مكتظ بمياه الصرف الصحي أمام خيمته. أما فاطمة حسن (55 عامًا) تختصر المأساة بكلمات تثقب القلب: "القذائف تقتلنا بسرعة، والبعوض يقتلنا ببطء. الفرق أنّ الموت البطيء لا يراه أحد". 

الأخصائية النفسية فداء مهنا تشرح كيف تحوّل طنين البعوض إلى "صوت للرعب الليلي" بالنسبة لـ 30% من أطفال غزة الذين يعانون الآن من اضطرابات النوم نتيجة القلق الدائم والإرهاق النفسي.

تقول مهنا: "أُضيف إلى الخوف من القذائف، خوف من ظلام تملؤه الحشرات. الأطفال هنا يتعلمون أنَّ الحرب لها أشكال لا تُحصى". في إشارةٍ منها إلى أنّ معاناة الأفراد لا تتوقف عند الجروح الناتجة عن لدغات البعوض، بل تمتد لتؤثر على نوعية حياتهم بشكل عام، مما يفاقم من أعبائهم النفسية.

وتوضح مهنا إلى أنّ هذا القلق المستمر يُعزز حالة من التوتر العصبي الذي يؤثر على التركيز والأدّاء اليومي للأطفال وأسرهم، مما يؤدي إلى تفاقم الوضع النفسي والبدني في ظلّ أزمة صحيّة شاملة تُضاعف من المعاناة في القطاع.

إلى جانب التوتر العصبي، فإن المخاطر الصحية لهذه الآفة قاتلة بحسب تحذيرات طبية.  

في عيادة طبيّة مؤقتة بمدينة خانيونس، يرفع الطبيب إبراهيم منصور سجلات المرضى ليشير إلى ازدياد بنسبة 60% في حالات الالتهابات الجلدية منذ أكتوبر 2023. "البعوض هنا ينقل أمراض لا حصر لها، ويُسبِب التهابات جلدية وتهيجًا يُمكِن أن يُؤدي إلى التهاباتٍ بكتيرية"، يقول بينما يفحص ذراع طفلة تغطيها بثور ملتهبة. 

وأضاف منصور أنَّ غزة تفتقر للعلاج المناسب؛ لذلك يكتفي الأطباء بتقديم وصفة طبية تقتصر على مضادات للحساسية، مشيرًا إلى أنّ العلاج المنزلي والوصفات الشعبية  في حال توفر، قد يكون له فعالية لتخفيف آثار اللدّغات، بدلًا من ترك الأشخاص يعانون آلامًا جسدية ومشكلات نفسية لا تُحتمل على إثر معاناتهم مع الحشرات.

ولأجل مواجهة هذه الأزمة الصحية، تقول بلدية غزة إنها بحاجة إلى مليوني دولار وهو واحدة من ثماني بلديات تعاني ذات المشكلة وتتطلب موارد بتكلفة متفاوتة، فيما يحول الحصار دون إدخال أبسط المستلزمات. 

حُسني مهنا، الناطق الرسمي باسم البلدية، يشرح المعضلة: "نحارب بلا أسلحة. حتى المبيدات البسيطة تُصنف كمواد خطرة يمنع الاحتلال إدخالها إلى القطاع".

إزاء ذلك قال مهنا: "نحن نبذل جهودًا كبيرة لجمع النفايات في المناطق الأكثر اكتظاظًا، لكن شُح المبيدات الحشرية والمعدات يُعيق عملنا بشكل كبير"، مؤكداً أنّ هناك خطة لتكثيف حملات الرش، لكن ذلك مرهون بإعادة فتح المعابر وإدخال المواد اللازمة.

أمام استمرار هذه الأزمة بالنسبة للسكان، حذر نزار الوحيدي، الخبير البيئي، من عواقب الكارثة على البيئة والمناخ معًا، وقال: "غزة تتحول إلى قنبلة بيئية موقوتة، فالمياه العادمة تُنتِج غاز الميثان الذي يسخن الكوكب 25 مرة أسرع من ثاني أكسيد الكربون؛ لذلك نحن لا نُقتل بالحرب فقط، بل نُحرق عندما نُساهم في تدمير الكوكب رغمًا عنا".

ويُشير الوحيدي إلى أنّ تدمير شبكة الصرف الصحي في غزة ونقص المبيدات الحشرية اللازمة يُسببان استمرار انتشار الحشرات، مؤكدّا أنّه في حال لم تُتخذ إجراءات عاجلة، سيتفاقم الوضع بشكل أكبر.

هذا التعقيد الذي ينتهجه الاحتلال في التعامل مع صحة سكان قطاع غزة، وبخاصة منع ادخال الأدوية والمتطلبات الضرورية كالمبيدات الحشرية، يشكل انتهاكا لما ورد في القوانين الدولية.

المحامي طارق الزر يقول إنّ منع إدخال المبيدات ينتهك المادة 12 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مشيرًا إلى أن إسرائيل تخرق المواثيق الدولية بمنعها إدخال المبيدات الحشرية والمعدات الضرورية.

كما يتناقض المنع الإسرائيلي لما تنصّ عليه المادة 11 من البروتوكول الإضافي للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، التي تكفل للإنسان حقه في العيش في بيئة صحيّة.

ويلفت الزر إلى مفارقة قانونية، بقوله: "القانون الدولي يعتبر حماية البيئة في النزاعات المسلحة مسألة 'إنسانية' لا 'بيئية'، مما يحدّ من آليات المحاسبة. عندما تمنع إسرائيل دخول مبيدات البعوض، فهي لا تنتهك فقط حقوق الغزيين، بل تستغل ثغرة في النظام الدولي الذي يفصل بين انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم البيئية".

ويختتم بالقول: "غزة تتحول إلى سابقة خطيرة - حيث يصبح التدمير البيئي سلاحاً غير مرئي يقتل ببطء، بينما تتحايل القوانين الدولية على اعتباره جريمة حرب".

هذا الواقع، دفع المحامي لطرح السؤال: متى سيعترف المجتمع الدولي بأن تدمير البيئة في غزة ليس مجرد "أضرار جانبية"، بل هو استراتيجية قتل بطيء تنتهك روح القانون الدولي ذاته؟".

 

موضوعات ذات صلّة:

أنابيب الصرف الصحي تتحول إلى ناقلات وبائية  

سكان غزة يشقون طريقهم عبر الصرف الصحي

تفشي النفايات: التهديد الصامت لصحة سكان غزة

إبادة الحياة في غزة.. جريمة بيئية مكتملة الأركان