كانت الشمس تميل نحو الغروب حين وجدت يارا أحمد نفسها محاصرة مرة أخرى. تلك الطفلة الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها الثماني سنوات وقفت في طريقها بإصرار، يديها الممتدة تلمعان تحت أشعة الشمس. "ليس معي نقود"، حاولت يارا أن تشرح للمرة العشرين هذا الأسبوع، لكن الطفلة لم تكن تستمع.
بدلاً من ذلك، أمسكت بحقيبة يارا المدرسية بقوة مذهلة لطفلة في عمرها، "قبل الحرب، كان الأمر مختلفًا"، تقول يارا ذات الثمانية عشر ربيعًا وهي تفرك ذراعها حيث لا تزال آثار قبضة الطفلة باقية، "كان المتسولون يطلبون بلطف، بعضهم كان يبيع مناديل أو حلوى أما الآن في ظل الحرب على غزة، فأصبح الأمر أشبه بمعركة يومية على قوت يومهم".
في سوق النصيرات وسط قطاع غزة، على بعد كيلومترات، كانت فداء عبد الرحمن تعيش تجربة مماثلة، طفلة لا يتجاوز عمرها العاشرة ركضت نحوها فجأة وأمسكت بيديها، قبل أن تتمكن فداء من فهم ما يحدث، وجدت الطفلة تقبل يديها بعنف، ثم ترفع عينيها وهي تهمس: "خمسة شواكل فقط.. أرجوك".
"أعطيتها شيكلًا واحدًا"، تروي فداء، "فردته في وجهي وكأنني أهنتها، قالت لي بصوت مليء بالاستنكار: شيكل واحد لا يكفي لشراء أي شيء!".
ومن الواضح أن الحكايات تتكرر في كل زاوية من زوايا قطاع غزة الذي يرزح سكانه تحت الحرب منذ عام ونصف. دينا سعيد تصف كيف تعرضت لموقف محرج عند مفترق الجلاء وسط مدينة غزة، حيث احتضنتها طفلة بملابس مهترئة ولم تتركها حتى بعد أن أخبرتها أنها لا تحمل أي نقود سوى بطاقتها البنكية.
"ظلت تلح عليّ أن أعطيها شيئًا من حقيبتي"، تقول دينا بصوت مرتجف، مشيرة إلى أن مثل هذه السلوكيات تضع الأشخاص في حرجٍ من أمرهم، وبخاصة أن الكثير من الناس ليس بمقدورهم أن يتصدقوا على هؤلاء الأطفال في ظل الاحتياج الماس الذي يعانيه الجميع بسبب ظروف الفقر الناتجة عن الحرب.
وراء هذه المشاهد اليومية، تكمن مأساة أكبر، فالحرب التي بدأت في أكتوبر 2023 حولت آلاف الأطفال إلى أيتام بين ليلة وضحاها. وفقًا للمركز الفلسطيني للإحصاء، فإن أكثر من خمسة وثلاثين ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما.
وفي ظل غياب المعيل ووصول معدلات الفقر إلى مستويات قياسية، لم يعد أمام الكثير من هؤلاء الأطفال سوى الشارع ليعيلوا أسرهم.
ويرفض الكثير من هؤلاء الأطفال الإفصاح عن هوياتهم الشخصية لغايات متعددة، لكن النتيجة واحدة ارتكاب السلوك ذاته "التسول"، والذي يشكل خرقاً لمجموعة من القوانين الفلسطينية.
وجاء في قانون العقوبات الفلسطيني رقم (16) لسنة 1960 يمنع التسول ويعاقب عليه، كونه من أشكال الكسب غير المشروع، ويمنع قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004، المادة (43) استغلال الأطفال في التسول، وتوكيل لهم أي عمل قد يضر بسلامتهم أو بصحتهم الجسدية والنفسية.
وبعد محاولات معدة التقرير، لإقناع بعضهم للحديث عن دوافعهم تجاه ممارسة هذا الفعل، عثرنا على محمد سمير (*)، ذو الأحد عشر ربيعًا، يقف عند إشارة شارع الوحدة وسط مدينة غزة كل صباح. عيناه الحزينتان تتابعان السيارات المارة باحثة عن نظرة عطف.
"أبي مات نتيجة القصف"، يقول بصوت خافت يكاد يختفي تحت ضجيج المحركات، ثم يضيف "أختي الكبرى تجبرني على الخروج كل يوم، يجب أن أجلب عشرة شواكل على الأقل وإلا لن نأكل".
أما آية ذات التسع سنوات، القاطنة في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، فتحاول أن تجد طريقة أخرى، بدلاً من التسول المباشر. حيث تحمل الطفلة قطعة قماش وتحاول تنظيف زجاج السيارات المتوقفة عند مفترقات الطرق التي طحنتها الآليات العسكرية، "لكن معظمهم يطردونني"، تقول والدمعة تلمع في عينيها.
المؤسسات المحلية تحاول أن تأخذ على عاتقها التصدي لهذه الظاهرة في ظل الغياب الكامل لأدوات الرقابة الرسمية على أرض الواقع، لكن التحديات جسيمة، بحسب ما يقولون.
إحسان الإفرنجي، منسقة في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، توضح أنهم ينظمون جلسات دعم نفسي وفنية للأطفال، لكن الكثيرين منهم ينسحبون مبكرًا. "يعودون إلى الشوارع لأن أسرهم تحتاج إلى ما يجنونه من التسول"، تقول إحسان بحزن.
ورغم تجريم التسوّل في القانون الفلسطيني، إلا أن الوضع الأمني والاقتصادي يُعيق التطبيق الفعلي، تقول إحسان، موضحة أن الدوافع الخفية وراء التسوّل هو الحاجة المادية للكثير من الأسر، مؤكدة أن هؤلاء الأطفال هم أكثر عرضةً للصدمات النفسية.
يعكس هذا الواقع فقدان الأسر لمصادر الدخل الأساسية بسبب دمار المنازل والبنى التحتية وتدمير الأعمال التي أدّت لارتفاع معدّل البطالة إلى 80% وفق تقديرات رسمية.
وازدادت ظاهرة التسول بين الأطفال في قطاع غزة بشكل ملحوظ، غير لا أنه لا توجد إحصائيات دقيقة حول عددهم أو ظروفهم، فيما تُشير تقديرات المؤسسات المحلية مثل مركز التدريب المجتمعي الفلسطيني، إلى أنَّ نحو 30% من الأطفال في المناطق المُتضررة من الحرب يتسولون يوميًا لمساعدة أسرهم.
كما تفيد التقديرات المحلية، أنَّ غالبية الأطفال المتسولين يتراوح أعمارهم بين 7 و12 عامًا، وهي الفئة الأكثر تعرضًا للاستغلال بسبب غياب المعيل، والأدوات الرقابية الفاعلة.
على أثر ذلك، حذر الخبير الاجتماعي والنفسي عرفات حلس من العواقب بعيدة المدى. وقال "هؤلاء الأطفال لا يفقدون طفولتهم فقط، بل يصابون بصدمات نفسية عميقة ستؤثر على مستقبلهم ومستقبل المجتمع كله".
وشدد حلس في سياق حديثه مع مراسلة "آخر قصة"، على أهمية دور الأسرة والجهات المعنية بحقوق الطفل في مواجهة هذه الظاهرة. وقال: "الأسرة يجب أن تتنبه لسلوكيات أطفالها، وأن تُقدِّم لهم الدعم النفسي وتوفر لهم بيئة أكثر أمانًا للعيش".
في ظل غياب الحلول الجذرية، تستمر المعاناة، فالقوانين التي تحظر التسول وتجرم استغلال الأطفال تظل حبرًا على ورق نظرا للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، والنتيجة؟ جيل كامل من الأطفال تحولت طفولتهم إلى كفاح يومي من أجل البقاء.
عند غروب الشمس، يعود محمد إلى الخيمة التي أصبحت بيتًا له، العشرة شواكل التي جمعها خلال اليوم تكفي لشراء بضعة أرغفة من الخبز "أحيانًا أتمنى لو أن الصاروخ الذي سمعت صوته البارحة كان قد سقط عليّ"، يهمس وهو يلتهم طعامه بشراهة الجائع.
موضوعات ذات صلّة:
التسول في رمضان... حاجة ملحة أم مهنة؟
"القدس" ترصد حكايا وقصص المواطنين مع المتسولين
أطفال غزة يعانون أزمات نفسية حادة
واقع ظاهرة التسول في المجتمع الفلسطيني
أوضاع أطفال فلسطين عشية يوم الطفل الفلسطيني
تسول الأطفال في غزة